نورالدين بازين
دور المثقف في الأزمات، مثل الهجرة الجماعية من الفنيدق نحو سبتة، يُفترض أن يكون حاسمًا في توجيه الجماهير وتقديم بدائل فكرية وسياسية. لكن هذه الأزمة أظهرت فجوة واضحة في هذا الدور، إذ لم يكن هناك حضور قوي للمثقف المغربي في المشهد لقيادة المجتمع نحو فهم أعمق للأسباب الجذرية للأزمة وتوجيههم نحو حلول مستدامة.
كان من المفترض أن يلعب المثقفون دورًا أساسيًا في توجيه النقاش حول أزمات مثل الهجرة الجماعية من الفنيدق نحو سبتة. هؤلاء المثقفون يمتلكون الأدوات الفكرية والقدرة على تقديم قراءات تحليلية معمقة تتجاوز القراءات السطحية أو الشعبوية التي تركز فقط على النتائج دون الغوص في الأسباب الجذرية، فغياب هذا التحليل النقدي يُضعف الوعي الجماهيري. عندما لا يتمكن الناس من فهم الأسباب الهيكلية للأزمات، يلجأون إلى حلول سريعة وغير محسوبة، مثل الهجرة غير الشرعية التي تحمل مخاطر جسيمة.
فالمثقفون يمكنهم تحويل النقاش من مجرد الحديث عن “نتائج الهجرة” إلى “أسبابها الحقيقية”. هذا النوع من التحليل يساعد في توعية الجماهير بضرورة البحث عن حلول جذرية، ويحول دون اتخاذ قرارات غير مدروسة مثل الهجرة الخطرة التي قد تؤدي إلى نتائج كارثية،فعندما يغيب المثقفون عن تقديم هذه الرؤية التحليلية، يتركون المجال واسعًا لانتشار الخطابات الشعبوية أو القراءات السطحية التي تركز على لوم الحكومة فقط دون تقديم بدائل أو حلول واقعية.
المثقف لديه القدرة على إعادة تشكيل النقاش العام بطريقة تتيح للمجتمع التفكير في حلول جديدة ومبتكرة. بدلاً من التركيز على فكرة الهروب إلى سبتة، يمكن للمثقفين طرح رؤى تتعلق بالتنمية المحلية والاستثمار في القدرات المحلية، وهو ما قد يقلل من الإحساس بالعجز الذي يدفع إلى الهجرة، لكن في غياب المثقف، يظل النقاش محصورًا في دائرة ضيقة، مما يساهم في تعميق الشعور بالإحباط لدى الجماهير، ويعزز من اختياراتهم الخطرة.الهجرة الجماعية ليست فقط ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية، بل هي مؤشر على اختلالات أعمق تتعلق بالسياسات التنموية والاقتصادية. المثقفون يُفترض أن يقدموا رؤى تحليلية تكشف عن هذه الاختلالات، مثل غياب الفرص الاقتصادية، وانتشار الفقر، وعدم وجود خطط محلية لتنمية المناطق الحدودية مثل الفنيدق.
يُفترض بالمثقفين أن يقوموا بنقد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى الفقر والتهميش، وهو ما يبدو غائباً. لا نرى في هذه الأزمة وجوداً قوياً لمثقفين يوجهون انتقادات بناءة للسياسات الحكومية التي ساهمت في تدهور الأوضاع في الفنيدق. هذا الغياب يُفقد المجتمع بوصلة مهمة في كيفية تجاوز الأزمات.
الفجوة بين المثقف والجماهير:
جزء من المشكلة يكمن في الفجوة بين المثقف والجماهير، حيث يبدو أن النخب المثقفة قد انغمست في قضايا نظرية أو فكرية بعيدة عن الواقع المعاش. المجتمع بحاجة إلى مثقفين قادرين على التواصل مع الفئات المهمشة وطرح رؤى واضحة ومبسطة يمكن للناس الاستفادة منها، فالمثقف كان من الممكن أن يلعب دورًا رئيسيًا في توعية الجماهير بضرورة البحث عن حلول محلية للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهونها، بدلاً من اللجوء إلى الهجرة كخيار وحيد. توجيه الناس نحو الابتكار المحلي، والاستفادة من الإمكانات المحلية، هو دور يتطلبه المثقف، لكنه غائب بشكل ملحوظ في هذه الأزمة، غير أن ما يظهر من هذه الأزمة هو أن غياب دور المثقف في التأطير والتوجيه يساهم في تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويترك الجماهير عرضة لمخاطر البحث عن حلول مؤقتة وغير آمنة مثل الهجرة.
إن تراجع الثقة في النخب الفكرية هو أحد العوامل الأساسية التي تساهم في تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية مثل الهجرة الجماعية من الفنيدق نحو سبتة. هذا التراجع يعكس فجوة متزايدة بين المثقفين والجماهير، ويؤثر على قدرة المثقفين في أن يكونوا مصدرًا للتوجيه والتحليل في مواجهة الأزمات.
فالجماهير، وخاصة الفئات المهمشة التي تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي، لم تعد تنظر إلى المثقفين كمرجع يُعتمد عليه لحل مشكلاتهم. هذا التراجع في الثقة ليس فقط نتيجة غياب المثقف عن الساحة، بل أيضًا لأنه في كثير من الأحيان، يعجز المثقفون عن تقديم رؤى عملية ومفهومة لمعالجة مشاكل الناس اليومية، فالمثقفون قد انغمسوا في القضايا النظرية والفكرية التي تبدو بعيدة عن الواقع المعاش. في ظل أزمات مثل الهجرة الجماعية، ينتظر الناس من النخب الفكرية تقديم حلول ملموسة بدلًا من النقاشات النظرية المجردة التي قد لا ترتبط مباشرة بأولوياتهم أو همومهم اليومية.
2. غياب التواصل مع الفئات المهمشة:
جزء من هذا التراجع في الثقة يعود إلى عجز المثقفين عن بناء جسور تواصل مع الفئات الأكثر تضررًا من الأزمات. فبدلاً من العمل على فهم احتياجات وتطلعات هذه الفئات، يتوجه الكثير من المثقفين نحو منصات النقاش الأكاديمية أو الإعلامية التي لا تصل إلى الجمهور الواسع أو لا تعالج همومهم المباشرة، فالنخب الفكرية أصبحت محصورة في دوائر مغلقة، مما يزيد من الشعور بالانعزال بين المثقف والجماهير. هذا العزل يفسر لماذا لم يعد الناس يلجأون إلى المثقفين كصوت يمكنه توجيههم أو تمثيلهم.
الابتعاد عن العمل السياسي المباشر:
العديد من المثقفين اختاروا الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، مفضلين البقاء في دائرة التحليل والنقد دون الانخراط في المبادرات السياسية أو الاجتماعية التي قد تكون وسيلة لتقديم حلول واقعية للأزمات. هذا الانسحاب جعل المثقف أقل فعالية في معالجة المشاكل الحقيقية، وأقل قدرة على التأثير في صنع القرار السياسي أو الاجتماعي، فالجماهير قد ترى في هذا الابتعاد دليلًا على أن المثقفين غير مهتمين بمشكلاتهم اليومية، أو أنهم يفتقدون إلى الجرأة اللازمة لمواجهة السلطة أو تقديم بدائل جريئة.
فنتيجة لهذا التراجع في الثقة، تجد الجماهير نفسها تبحث عن بدائل سريعة وغير محسوبة مثل الهجرة غير الشرعية، في غياب المثقف الذي يمكنه أن يقدم لهم رؤية استراتيجية لحل مشاكلهم. هذه الفجوة تُسهم في تفاقم الأزمات الاجتماعية والسياسية، وتضعف من قدرة المجتمع على التعافي من هذه الأزمات.
في النهاية، تراجع الثقة في النخب الفكرية يعكس أزمة أكبر تتعلق بدور المثقف في المجتمع. بدون إعادة بناء هذه الثقة من خلال التواصل مع الفئات المهمشة وتقديم رؤى عملية وحلول ملموسة، سيستمر المثقف في الابتعاد عن دوره التاريخي كقائد فكري قادر على توجيه الجماهير في الأوقات الحرجة.