روبورتاج/ على أرض الحوز: ما يستحق الحياة

روبورتاج/ على أرض الحوز: ما يستحق الحياة

- ‎فيبلاحدود, في الواجهة
2198
التعليقات على روبورتاج/ على أرض الحوز: ما يستحق الحياة مغلقة

روبورتاج : نورالدين بازين

الثامن من شتنبر 2024، شمس حارقة تتوسط السماء وتبعث أشعتها من أعلى جبال الأطلس الشامخة لتتناثر فوق كامل إقليم الحوز. السكان هنا لا يعبأون بحرارة الجو لكن قلوبهم أتعبتها حرارة الفراق ولوعة الفاجعة التي ألمت بهم قبل عام بالتمام، عندما اهتزت الأرض ومادت في أقوى زلزال في تاريخ المغرب.

تجوب أزقة دوار “تينزرت”  القريب من منطقة ماريغا بجماعة ويركان، عائشة، المرأة القوية التي أبت أن تنكسر أمام دمار منزلها. وجهها المليء بالتجاعيد، والذي يحمل قصة كل يوم عاشته، يشرق بفرح كلما رأت أطفالها. كأنها تجسد قوة الطبيعة نفسها، تشعر عائشة بأهمية الصمود، حتى وإن كانت المشاكل تهاجمها من كل جانب. بعد الزلزال، لم يكن أمامها سوى أن تضع حطام بيتها خلفها، وتتطلع إلى المستقبل بعينين مليئتين بالأمل.

في صباح كل يوم، تخرج عائشة إلى الحقول، حيث لا تزال آثار الزلزال تشوه الأرض. ترسم بصمتها صورة الأمل في هذه الأرض التي كانت ذات يوم تمتلئ بالحياة. ترى آثار الحطام حولها، لكن عائشة تمتلك القدرة على رؤية ما وراء هذا الخراب. “هذه الأرض لن تظل هكذا”، تهمس في نفسها، وهي تعمد إلى ترابها بيديها القويتين.

تبدأ عائشة في العمل في الزراعة، تزرع البذور في الأرض التي قد نالت منها الآلام. تشعر بأن كل بذور تزرعها هي بمثابة وعود جديدة، تعهد بإحياء الحياة من جديد. تشارك أطفالها في هذا العمل، وتعلمهم أهمية العطاء والصبر. “كل شيء يبدأ من جديد، كما أن الزهور تُزهر بعد كل شتاء قاسٍ”، تقول لهم بحماس.

في الحقل، يراها الجيران، فيلتفّون حولها، تستقبلهم بابتسامة دافئة، وكأنها تحاول نقل قوتها إليهم. “دعونا نعمل معًا، نعيد بناء ما فقدناه”، تدعوهم بحماس. بفضل عزمها وإرادتها، بدأت الأيادي تتشابك، ويتعاون الجميع في مسعى واحد: إعادة الحياة إلى أرضهم.

أصبحت عائشة التي فقدت زوجها في الزلزال، رمزًا للأمل في القرية، تزرع الأمل في نفوس الجميع، حيث لم تعد مجرد امرأة تدافع عن عائلتها، بل أصبحت قائدة تتجاوز الأوجاع. كل خطوة تخطوها تُعبر عن رغبتها في إعادة الحياة إلى قريتها، وتثبيت جذور الأمل في قلوب من حولها.

ومع كل غروب شمس، تراقب عائشة الأفق، حيث تضيء السماء بألوان جديدة، تشعر بأن الأمل يتجدد في كل يوم. تُحاط بأطفالها الذين يلعبون في الحقول، يصرخون ببراءة ويضحكون. في تلك اللحظة، تدرك أن الحياة، رغم كل الصعوبات، ما تزال تستحق العيش. هي تمثل الأمل المتجدد في قلب الحوز، وتُظهر أن الحب والعمل الجاد يمكن أن يغيرا مجرى الأحداث حتى في أحلك الأوقات.

“لا أستطيع تركهم يعتقدون أن الحياة انتهت”، تهمس عائشة وهي تعدّ الغداء لأطفالها، الذين يتجمعون حولها ببراءة. تروي لهم قصص والدهم الراحل ببكاء صامت، وتحدثهم عن قوة الصبر والتحمل.

وفي زاوية أخرى من القرية، تشتعل روح الشباب والتفاؤل في قلب عمر. يتجلى في عينيه بريق الطموح، حيث يحمل عبء الأمل على كاهله، مُرشدًا الجميع إلى طريق النهوض من جديد. بعد أن خُطفت منه أحلامه  بالزلزال، اختار عمر أن يتحول من ضحية إلى بطل، مُدافعًا عن حقه في الحياة وإعادة بناء ما تم تدميره.

لقد عاين بوضوح كيف غيّرت الكارثة مصائر الكثيرين، فبعد أن فقد متجره الذي كان يحلم بتأسيسه،آمن بأن هناك دومًا فرصة للانطلاق مجددًا. لم ينتظر أن تأتيه المساعدة من الخارج، بل اتخذ قرارًا بأن يكون هو التغيير، عازمًا على دفع الآخرين إلى العمل من أجل مستقبلهم.

يتحرك بسرعة بين الركام، موجهًا جيرانه للمساعدة، وكأنه يزرع بذور الأمل في قلوبهم.

“الأرض تحتاج إلى إعادة بناء، ونحن أيضًا”، يقول عمر وهو يبتسم في وجه رفاقه. يعمل بجد، يجمع الحجارة والأخشاب، ويتحدث عن حلمه بإعادة فتح متجره. “سأجعل هذا المكان ينبض بالحياة من جديد”، يضيف بحماس، مما يلهم الجميع للعمل معه.

ومع غروب الشمس، يظهر أحمد، الحكيم في زمن العواصف. يجلس أمام منزله المتواضع، مسترجعًا ذكرياته التي تمتزج بألوان الغروب الدافئة. يحمل صوته تجارب السنين، ويعكس حكايات من العزيمة والإرادة. “لقد شهدنا أوقاتًا صعبة من قبل، ونجونا منها”، يقول أحمد وهو ينظر إلى الأطفال الذين يلعبون أمام الخيام، فيضفي عليهم لمسة من الأمل. تتعالى ضحكاتهم رغم كل شيء، ليكونوا شاهداً على أن الحياة تستمر، وأن هناك دائمًا من يسعى لإعادة بناء ما تهدم.

بينما تشرق الأضواء الخافتة في الأفق، يبدأ أحمد في سرد حكاياته عن الفخر والشجاعة. يتذكر اللحظات الصعبة التي مر بها سكان قريته، وكيف اتحدوا في مواجهة التحديات. يجتمع حوله عدد من الشباب، يستمعون بشغف، وكأن كلمات الحكيم هي تعويذة السعادة التي تجعلهم يشعرون بقوة الوحدة. يروي لهم قصص جيرانه الذين واجهوا الزلازل والمحن، وكيف استطاعوا النهوض من جديد بفضل تكاثفهم.

“لا بد من التكاثف هذه هي قوتنا”، يقول أحمد وهو يرفع يده مشيرًا إلى السماء، كما لو كان يدعو العلي القدير ليبارك جهودهم. تضيء عينيه بوهج الإيمان، بينما يشعر الجميع بروح الوحدة التي تربطهم. تتدفق أفكارهم من حوله، وتشعرهم بأنهم جزء من شيء أكبر، نسيج متماسك من الحياة.

في تلك اللحظات، يصبح أحمد رمزًا للتضامن والإلهام. ينقل إلى الشباب القيم التي لا تُقدّر بثمن، مثل الأمل والكرامة والعمل الجماعي. يتجلى في كلمات أحمد أن الحياة ليست مجرد سلسلة من الأحداث، بل هي رحلة تتطلب الشجاعة والتعاون.

تلتف حوله العائلات، وتبدأ قصصهم بالتلاقي مع قصصه، مما يجعل الحكايات تتداخل وتصبح واحدة. كل واحد منهم يروي كيف أثر الزلزال في حياته، لكنهم يجدون في كلام أحمد ما يشجعهم على رؤية الأمل في الأفق. ينجذب الجميع إلى حديثه، كأنهم يكتشفون في كلماته دروسًا تنبض بالحياة.

وبينما تنخفض الشمس أكثر في الأفق، تتكون حلقة حول أحمد، حيث يتردد صدى ضحكات الأطفال في الخلفية، تذكيرًا بأن الحياة تستمر. “المستقبل في أيدينا، لنصنعه معًا”، يضيف أحمد، مما يملأ القلوب بالطاقة والإيجابية، ويشعل فيهم روح الحماسة لبدء رحلة جديدة. وفي كل كلمة ينطق بها، يزرع الأمل في النفوس، ويؤكد أن الحياة، مهما كانت قاسية، يمكن أن تُبنى من جديد.

بينما تغرب الشمس خلف الجبال، تنبعث من القرى أنفاس الحياة. عائشة، وعمر، وأحمد، يمثلون روح الحوز، حيث الصمود والأمل يتجدد. في كل حجر، وفي كل ابتسامة، تبرز حقيقة واحدة: الحياة تستحق النضال.

هذه هي الحوز، حيث كل قصة تروي حكاية إنسانية تصمد أمام الزلزال، وتؤكد أن ما يستحق الحياة هو الحب، الأمل، والقدرة على النهوض من جديد. هنا، تنبض الأرض بقوة الإرادة، وتتراءى في عيون الناس شجاعة لا تعرف الكلل. في كل زاوية، تلمع أحلام ملونة رغم الظلال التي خلفها الزلزال. لا تزال الحكايات تتواتر تحمل معها روح التضامن والتعاون، حيث يصبح الجار سندًا للجار، والأصدقاء عائلة.

في كل ركن من أركان هذه القرى، تتجلى معاني الحياة ببساطتها وأصالتها، فتتحد الأيادي لتعيد بناء ما دمرته الكوارث والأيام الصعبة، كوحدة عائشة وجاراتها اللواتي تركناهن متحلقات حول مائدة وضعت تحت ظل شجرة وارفة أمام بيتها، وعليها صينية شاي وزيت وزيتون وخبز شهي خرج لتوه من الفرن التقليدي، بجانبهن أطفالهن المنخرطون في اللعب وعلى وجوههن ابتسامات صبر وامتنان تقول إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

 

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

صباح الخير..عبدة لا تليق بمدينة سبعة رجال: دعوات لإعادة الإقليم إلى دكالة

نورالدين بازين موضوع الهوية والانتماء الثقافي لإقليم عبدة،