الرياضة والجريمة الرياضية

الرياضة والجريمة الرياضية

- ‎فيرأي, في الواجهة
1267
التعليقات على الرياضة والجريمة الرياضية مغلقة

 

في تدوينة عابرة طرحنا السؤال بصدد إمكان الحديث عن الجريمة الرياضية؟. وهنا نعيد طرح السؤال بطريقة أخرى: ما الجريمة الرياضية؟ وما علاقتها بصناديق الاقتراع الانتخابي؟ وما طبيعة علاقتها بفكرة التقدم الموروثة عن عصر الأنوار والدولة الديمقراطية الليبرالية وبدولة الحق والقانون المنشودة؟

منذ بضع سنين، تابع الكثيرون سباق بين جونسون الشهير: الرجل يعدو بسرعة فائقة، فجأة ينظر خلفه، يبطئ من سرعته بكيفية مشهودة وكي لا يلحق أقصى درجات المهانة بمنافسيه.
هذا ما شاهده واعتقده الجميع. والبقية معروفة، فقد تم إقصاؤه بسبب تعاطي المنشطات. وهذا الإقصاء مذهل وغريب ومثير للاستغراب.
العديد من المرشحين للتبريز في العلوم ” يتكربنون” بالأنفيتامين، يدينون بنجاحهم إلى الماكسيتون. وفي السياق نفسه، يطرح السؤال: هل تم تدمير روائع الفنان جيروم بوش سلفادور دالي بسبب تعاطي الأقراص المهلوسة؟ هل وقع إحراق سيجموند فرويد بسبب إدمان المورفين؟ أليس إنجاز بين جونسون مثل روائع هؤلاء؟
إذا كانت لوحة جيروم بوش التي تحمل عنوان: الحكم الأخير، نتيجة زواج الفرشاة والفطريات السامة، ألا يعتبر سباق بين جونسون تحفة فنية خلقها التكافل بين العضلات والصيدلة؟ لماذا تكون العضلات مجرمة حين لا تكون الأعصاب أو المعلومات كذلك؟ لماذا تفرض الرياضة على نفسها من المتطلبات أكثر مما تفرضه محافل الثقافة والفرجة الأخرى؟ ولماذا تصطنع جرائم للاستهلاك الذاتي أو الداخلي لدرجة أن رجلا صالحا يمكن أن يصير مجرما رياضيا دون أن يتوقف عن أن يكون رجلا صالحا؟
ليست الجريمة هنا تلك التي يرتكبها الرعاع والحثالة والشوارعيون، وليست جريمة الحقائب السوداء التي يتبادلها رجال العصابات، كما ليست جريمة الملتزمين الذين يقتلون زوجاتهم، لأن هذه الجرائم لا شيء يميزها رياضيا. فإذا كان كل الرعاع يرتادون مدرجات الملاعب، وإذا انتسب جميع النصابين للأندية الرياضية، ولو كان فوق الحلبة جميع الملاكمين الذين قتلوا زوجاتهم، لعرفنا ذلك ولتمت منذ مدة توأمة وزارة الداخلية ووزارة الشبيبة والرياضة. إن السؤال بصدد الجريمة الرياضية يتعلق فقط بهذه الظاهرة المحايدة للرياضة والمرتبط إنتاجها لجريمتها الخاصة قصد فضحها ومراقبتها بكيفية مذهلة، بل ومذهلة جدا لدرجة يطرح معها سؤال الطهارة الفائضة عن الحاجة: ألا ينتهي مطلب الطهارة بجلب العار للرياضة؟
في سبيل إضاءة هذا السؤال، يوائم النظر في الرياضة بعين غير رياضية، ذلك أن الرياضة ليست علة ذاتها. وليس في هذا ما يثير لأن المقصود أساسا أن الوظيفة التاريخية للرياضة ليس لها تفسير رياضي صرف: ذلك أن بذل قصارى الجهد وتجاوز الذات والمباراة النزيهة والمنافسة الشريفة…وغيرها، هي وقائع نفسية تحكي حماس وطموح اللاعبين، ولا تفسر على أي نحو انتصار الرياضة. وإلا فلماذا اختفى مصارعو روما القديمة؟ لقد كان بإمكانهم البقاء والانتصار، طالما “الفضائل” الرياضية لا تعوزهم.
إن وظيفة الرياضة ثقافية. والمقصود بذلك أن حياة الرياضة المستديمة تعود إلى فعاليتها الروحية، أي إلى فعاليتها الإيديولوجية.
وقد يتضح ذلك من خلال فكرتين وشمتهما الرياضة في أذهان الناس: فكرة التقدم وفكرة الديمقراطية الانتخابية. فهاتان الفكرتان تشكلان معمار العقلية السياسية لليمينيين واليساريين، للمؤمنين وللدهريين. ولو لم توجد الرياضة، فكم يلزم من ساعات التدريس المدني في سبيل الإقناع بصلاحيتهما ومصدوقيتهما؟!
تقوم فكرة التقدم على أن الزمن الذي ينقضي يؤسس لما هو أفضل في وجود الإنسانية، ويسير بها دون تراجع نحو مثال أحسن. وقد نشأت هذه الفكرة قبل ولادة الرياضة بكثير: في القرن 18: فقد اختمرت في أذهان الفلاسفة عشية الثورة الفرنسية وشكلت إسمنت نخبة سياسية صغيرة في هذه المرحلة.
وليست فكرة التقدم بدهية، لأن العديد من التطورات في التاريخ ترافقها ارتدادات وتراجعات؛ فالعلم يتقدم بالتأكيد، غير أنه يقوي القدرة الحربية لدرجة أن هيروشيما هي في الوقت نفسه تقدم وبربرية وحشية. ومثلما أن الإنتاجية الاقتصادية تخلق البطالة، فكذلك يخلق الطب الحديث أمراضا جديدة غير قابلة للعلاج، وتخلق الصيدلة الحديثة منشطات يعرف الجميع مضاعفاتها الوخيمة، وقس على ذلك.
لم يمنح التاريخ الواقعي لفكرة التقدم وضعا قارا وثابتا، إذ لا تلبث أن تتراجع كلما تم التمسك بها. وبالمقابل، فللرياضة أرقامها القياسية، تسجل الإنجازات المنصرمة التي تنتظر تجاوزها وتخطيها. وعليه، تشكل الرياضة مملكة التقدم دون منازع. الكلمة دائما للأسرع والأبعد والأعلى، دون وهن أو ضعف، ودون أثر سلبي: إنها طهارة مفهومة حقيقية للتقدم. ومع الرياضة، لن يشك أحد إطلاقا في وجود التقدم. بل إن القديس طوما نفسه لن يشك في ذلك، لأنه يرى التقدم ويلمسه ويسمعه، ويعرف أن كل رقم قياسي سيتم تجاوزه وتحطيمه. إن التقدم هو ضرورة الرياضة وقانونها الداخلي. ولذلك حين يتم الحديث عن نقد العلم والطب والتكنولوجيا، فإن هذه المفاهيم تتقوى بفضل النموذج الرياضي الذي يتوسط ويتدخل بين مفهوم التقدم ومفهوم التاريخ الواقعي مثل شباك يسمح لشطر الورد بتسلق الجدار الأملس جدا: فالرياضة رسخت في أذهان الناس فكرة التقدم أفضل مما يمكن أن يقوم به جيش من المعلمين والأساتذة والموظفين في المعرفة والثقافة.
وينسحب الأمر نفسه على الديمقراطية النيابية: ذلك أن شرعية السلطة المبنية على صناديق الاقتراع، هي سلطة جديدة تماما. لقد مورست السياسة طويلا، واعتقد الناس مع القديس بول أن الله يمنح الشرعية (يعطي السلطة والقوة لمن يشاء) كما اعتقدوا مع ميكيافيلي أن السياسة تقوم على السلاح والخداع، أو مع جان جاك روسو أن الشعب الثائر هو الذي يمنح السياسة حقها و قانونها. أما اليوم، فصندوق الاقتراع هو الذي يعطي الشرعية للسلطة المتمددة في جميع محافل المجتمع ومستوياته…

المتشرد الحكيم عبد الجليل بن محمد الأزدي

يمكنك ايضا ان تقرأ

انسحاب والي مراكش من لقاء المحامين العرب يثير تساؤلات..

حكيم شيبوب شهدت أشغال لقاء المكتب الدائم لاتحاد