حوار: محمد بلال
في هذا الحوار ونحن في شهر رمضان، شهر التسامح والخلق الإسلامي الأصيل، يقدم الباحث في الإسلاميات والتصوف، والأستاذ في عدة مؤسسات أكاديمية ومعِدّ عدة برامج إعلامية فكرية وفنية صوفية، الدكتور محمد التهامي الحراق إضاءات حول مفهوم “التسامح” و بعض أبعاده المعرفية والتربوية والاجتماعية، مبرزا بعض أسباب انسحاب هذه القيمة من السلوكات الفردية والجماعية باسم الدين أو الأنانية أوالفردانية. وهنا نص الحوار مع الباحث محمد التهامي الحراق الذي سألناه أولا:
- كيف يمكن أن نتسامح؟
- ويجيب:
يتحقق التسامح حين يؤمن الفرد بأن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات التي لغيره، وحين يدرك أنه لا يمكن أن يعيش مع الآخرين إلا إذا احترم مساحات وجودهم، وعمل معهم على تأسيس مشترك من القيم والمبادئ التي تضمن التعايش للجميع على قدم المساواة.
- لم التعارف عوض التسامح، كما تؤكدون ذلك في عدة مناسبات؟
شخصيا، أميل إلى مفهوم “التعارف” باعتباره مفهوما قرآنيا ورد في قوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم“؛ ذلك أن التسامح قد يوحي بنوع من التنازل والتفضل بالسماحة على الآخر، في حين أن التعارف تقوم على أربعةِ أسس متكاملة وهي: السعي إلى التعرف على الآخَر، والعمل على امتلاك معرفة ملائمة به، ثم الاعتراف بالآخَر في اختلافِه أي في آخَرِيَّتِهِ؛ وأخيرا تشييد العلاقة به على قيم “المعروف”، أي على قيم إنسانية مشتركة تضمن التعايش والتساكن بين الجميع.
- هل المسلم المتسامح يكون ضعيف الموقف؟
أبدا، التسامح بمعنى “التعارف” المشار إليه لا يعني أي ضعف أو استكانة أو هوان لكونه يقوم على الدفاع عن الحقوق الذاتية، بنفس القوة التي يدافع بها عن حقوق الغير؛ وذلك حين يتم صياغة وصون مشترك من القيم والقوانين المترجمة لها والمؤسسات الناظمة لحماية تلك الحقوق دون تمييز بين أفراد المجتمع الواحد على أساس العرق أو الطائفة أو اللون أو القبيلة أو الدين؛ إذ ناظم الانتماء وصون الحقوق في المجتمع الواحد هو معيار المواطنة، وهنا يصبحُ التسامحُ بالمعنى المشار إليه مصدر قوة لا مصدر ضعف.
- أين تقف حدود التسامح؟
التسامح لا حدود له إلا أن يؤدي إلى التفريط في حقوق الأفراد أو الجماعات المتعاملة بهذه القيمة فيما بينها، بمعنى أن هذه القيمة تأخذ بالاعتبار حقوق الجميع على قدم المساواة وتشكل معيارا لتبادل الاحترام والدفاع عن حقوق مضمونة لسائر الأطراف كما أشرنا سابقا.
- ما هي التوجيهات التي علينا العمل بها في حياتنا اليومية من أجل السلم الاجتماعي أولا؟
هي عديدة ومن ضمنها: العمل على أن لا يكون إثبات وجود الذات على حساب الغير، بل ينبغي أن يكون هذا الإثبات مبنيا على التعاون مع هذا الغير وتمكينهِ من مساحةِ إثبات ذاته أيضا، وكذا الانطلاق من حق الآخر في الاختلاف في وجهة النظر وفي الآفاق والمشاريع والمطامح وأنماط الحياة، شرط ضمان هذا الحق لسائر الأطراف بما يجعل من الاختلاف قيمة مطوِّرَة للفردِ والمجتمع، لا أن يتحول هذا الاختلافُ إلى تنازع وتنافر مدمر للفرد والمجتمع.
- كيف نخلق تصورات واقعية مبنية على التعايش، والتعرف على من نختلف معهم في العقيدة؟
البداية أساسا من الإيمان بحرية العقيدة، وهي ثابتة عندنا في روح الإسلام، قال تعالى: “لا إكراه في الدين..”، وقال أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام “إنما أنت مذكر ولست عليهم بمسيطر…“. إذن من حق المرء أن يختار عقيدته ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار على مختلف المستويات، وليس من حق أي كائن أن ينزل منزلة الإله في محاكمة الغير والحكم على سرائر الناس وبواطن قلوبهم.
- هل التسامح في الإسلام فضيلة كبرى لدرجة أن نحسب العدو في بعض الإشارات ولي حكيم؟
الإسلام أولا وفي مبدأ عنوانه هو دين التسامح بالمعنى المشروح سابقا، وثانيا هو دين تكريم الإنسان. إنه يرسخ في المؤمنين أن الإنسان كيفما كان وأينما كان هو أثر من نفحة إلهية، قال تعالى: “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين..”، وقوله: “ولقد كرمنا بني آدم..”. ولم يقل القرآن الكريم: ولقد كرمنا المسلمين فقط دون الآخرين. مثلما نقرأ في سورة الفاتحة وفي كل صلاة: “الحمد لله رب العالمين”، وليس رب المسلمين فقط، والأدلة على ذلك كثيرة، مما يعني أن الإسلام يدعو إلى تقديس الإنسان باعتباره أسمى قيمة في الوجود وحرمته عند الله أعظم من حرمة الكعبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:”والذي نفس محمد بيده لحرمة دم المؤمن (أو دم عبد الله) أعظم عند الله من حرمة الكعبة”.
- ماذا يمكن أن تقدم كنصائح لشبابنا لتجنب الجدل العقيم مع من يختلف معهم في العقيدة؟
اليقين أولا بأن الجدل في العقيدة هو جدل غالبهُ عقيم وغير منتج، لأن الأطراف تنطلق فيه من مسلمات غيبية ويقينيات عقدية. وهي يقينيات تغذي الوجود المعنوي والأمن الروحي والحاجة النفسية للطمأنينة للفرد، وهو ما يعجز عنه كثير من الأفراد عن ترجمته إلى حجج وأدلة عقلية. ثم إن هذه اختيارات فردية، قال تعالى: “وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا”؛ أي كل سيأتي يوم القيامة فردا على ربه يحاسبه على عمله واختياراته، “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ“.
- أي مستقبل في تقديركم لمبدأ التسامح بصفة عامة، خاصة في علاقة الرجل بالمرأة؟
المستقبل يبقى غير مبَشِّر إذا لم تقم كل الأطراف المتحاورة في سائر الإيديولوجيات والأديان والثقافات بنقد ذاتي من أجل أن تستأصل منها كل أسباب إقصاء الآخر. هذا بصفة عامة، وتحتاج العلاقة النواة بين الرجل والمرأة إلى نفس الأمر، من أجل بناء ثقافة إنسانية تمجد الإنسان، رجلا وامرأة، وتفكر في تكاملية الجنس البشري بعيدا عن الأنانيات سواء باسم الجنس أو غيره…. يقتضي المستقبل تجديد الأمل في تعايش أفضل قائم على المحبة والتكامل لا على التنابذ والتفاضل.
- ما الحدود الفاصلة بين التسامح والتنازل في الحياة اليومية في رأيكم؟
التسامح بالمعنى التعارفي المشار إليه آنفا، هو تحاور على قدم المساواة واعتراف متبادل بالحقوق، وإقرار بشرعية الاختلاف التي لا تقصي طرفا من أطرافها، بينما التنازل قد يكون إجراء ظرفيا أو تكتيكيا، مثلما قد يؤدي إلى التفريط في حق من الحقوق؛ لكن هذا التنازل إذا كان متبادلا من أجل الوصول إلى ما يضمن عيشا مشترَكا، فإنه يصير عنصرا من عناصر انتشار التعايش والتسامح.
كيف السبيل إلى إقناع الشباب بجرعة التسامح المطلوبة في ظل الفردانية وحب الذات الذي يطغى في العلاقات الإنسانية الحالية؟
لابد من المعرفة؛ وذلك من أجل إبراز المخاطر التي أدت إليها الأنانيات الفردية والجماعية في التاريخ، وتعريفهم بالنتائج الكارثية التي كانت نتيجة لهذه الأنانيات، ومنا نجم عنها من حروب ومآسٍ وهلاك للأفراد وللأمم والمجتمعات. مما يعني أن هذه القيم ليس مجرد إنشاء أو كلام في الهواء؛ بل هي خلاصات تجارب أفراد وأمم، وحِكَم وحقائق وصل إليه الإنسان بعد بذل وتضحيات، وبعد أن أدت الأنانيات إلى كوارث مدمرة لحق الحياة للجميع، وإن لم يجاهد الإنسان لكي يحيي تلك القيم ويترجمها في أخلاق وقوانين وسلوكات في الحياة، فإن أسباب العيش السعيد الذي يطلبه الإنسان على وجه الأرض تبقى مهددة على الدوام.