لقد تعددت التحليلات والفرضيات عن أسباب عودة الانقلابات إلى إفريقيا. وبشكل عام، يمكن إرجاع هذه الأحداث إلى عاملين اثنين:
– الأول يتمثل في توسع احزمة الفقر بسبب انتشار الفساد. ويمكن اعتبار هذا العامل “الشرارة” المبررة لحدوث هذه الانقلابات. ذلك ان غياب “الأفق” الاجتماعي، في ظل تدهور مستوى المعيشة، وانعدام الحلول، باستثناء الهجرة إلى أوروبا، من شأنه ألا يترك أي مهلة للتفكير في أفضل الخيارات نحو التغيير الحقيقي. استبدال قيادة بأخرى، يكون هو المطلب المستعجل، حتى لو كانت الثانية استمرارا للأولى، أو أكثر سوءا منها؛
– الثاني يتمثل في تأثير المحيط الإقليمي والدولي على الأوضاع الهشة في إفريقيا. فبعد كل ما خلفته كورونا من آثار سلبية على حياة الأفارقة، بالنظر إلى انعكاساتها المدمرة على اقتصادات دولهم، “جاءت” الحرب الروسية– الأوكرانية لتعصف بنقط الأمل المتبقية، نحو تحسن الأحوال المعيشية.
السؤال المضمر، الذي يمكن طرحه، بعد الذي تم سرده، هو: أليست للقوى الدولية، وضمنها الأمريكية– الأوروبية من جهة، والصينية– الروسية من جهة أخرى، تأثير في إنضاج شروط الانقلابات العسكرية. ما هو ثابت منذ سنوات، هو احتدام الصراع، بين الولايات المتحده الأمريكية والصين الشعبية، على إفريقيا، للاستئثار بخيراتها الطبيعية، ومواردها الطاقية والمعدنية.
غير ان دخول روسيا على الخط، وعبر ميليشيا فاغنر، سيغير من طبيعة الصراع: من صراع اقتصادي إلى صراع عسكري (أو شبه عسكري في حالات أخرى). البداية كانت في ليبيا، ثم انتقلت الى دول أخرى، ومنها دول الساحل، إضافة إلى السودان. وجود قوات فاغنر في هذه الدول، كان اما لدعم أنظمة، أو تهييئا لأنظمة أخرى.
على كل حال، لقد صارت روسيا، وعبر قوات فاغنر، فاعلاً رئيسا في أحداث إفريقيا اليوم. كسر حصار الغرب، الناشىء في إثر التقدم نحو أراضي أوكرانيا من جهة، و رد الصاع صاعين إلى أوروبا، وتحديداً فرنسا، عبر مزاحمتها على نفوذها في افريقيا، يبدوان من العوامل المؤججة للأحداث الإفريقية الحاصلة اليوم.
الغابون، المستعمرة السابقة لفرنسا، والحليفة القوية للإليزيه، ليست ببعيدة كثيرا عن تأثير العوامل المذكورة. العنصر المشترك بينها جميعا، هو عودة انقلابات العسكر على الأنظمة الرئاسية الحاكمة. بموازاة مع هذا العنصر، هناك عنصر ثان يتمثل في تصاعد نسبة الكراهية نحو فرنسا، باعتبارها المسؤولة عن دعم أنظمة الحكم الفاسدة، وبالتالي المسؤولة عن اتساع الفقر واشتداد درجته.
لقد أضحت دول إفريقيا، وهي تستسلم لحكم العسكر، بمثابة أحجار الدومينو التي تتساقط، الواحدة تلو الأخرى. هل وجد خيار آخر؟ كما قلنا، البحث عن التغيير، كيفما كانت طبيعته، وبأي ثمن، ومن أي جهة، ظل هو المطلب الشعبي العام، في ظل تكلس الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
وفي الغابون، حيث جرى أحدث الانقلابات العسكرية، يمكن ملاحظة أكثر المفارقات حدة: غنى البلاد بالثروات مع فقر الناس الواسع. وإن كان من تفسير لهذه المفارقة، فلن يخرج عن إطار الإحالة إلى هيمنة الأسرة الواحدة على حكم البلاد وخيراتها، مع ما ظل يستتبع ذلك من فساد، وتبعية اقتصادية مجحفة لفرنسا. والواقع، فقد كانت أمام علي بونغو أكثر من فرصة للتغيير، بعد ان خلف على حكم والده 2009، وبعد وجود أكثر من مؤشر على تدهور الأوضاع، وتململ كثير من القوى ضد حكمه، إلا أنه أغلق بابه دونها، حتى اقتحم عليه العسكر قصره.
في الأخير، هناك سؤال عالق، لابد من طرحه، حتى يستقيم تحليلنا لواقع الانقلابات في إفريقيا. هل يمكن توقع “شيء” إيجابي من العسكر، بحيث يقودون إلى التغيير الديمقراطي المأمول؟ للإجابة عن هذا السؤال، من الجدير الإشارة إلى ان قادة الانقلابات الحديثة في إفريقيا، هم من فئة الشباب في معظمهم. وعلاوة على ذلك، فمن الملاحظ ان هؤلاء الشباب يبدون تضامنا قويا مع بعضهم البعض، إلى الحد الذي يمكن ان يستعسر معه النجاح، في أي تدخل عسكري خارجي، سواء من القوة الاستعمارية السابقة (فرنسا) ام من تجمع دول غرب إفريقيا “الإكواس” (مثال ذلك، فشل التدخل في النيجر إلى اليوم). في إثر الاشارتين/ الملاحظتين السالفتين، يظهر ان الزعماء العسكريين للانقلابات متسلحون بحماس الشباب إلى التغيير، في ظل وجود بيئة شعبية محبطة، مستعدة لمساندة أي تحرك بهذا الاتجاه، حتى لو كان موقعا باسم العسكر. ولكن، وإلى ان تنتهي الفترة الانتقالية، التي يطالب بها جميع زعماء الانقلاب، ستكون هناك نخبة عسكرية قد ترسخت في صورة مدنية مزيفة، بما يجعل من حقها الترشح للانتخابات، ومن ثم الفوز بالرئاسة بسهولة (مثلما فعله الفاتح الأول “السيسي” في مصر، وما بات يتطلع إلى فعله الفاتح الثاني “البرهان” في السودان).
وبعد حين، قد يطول أو يقصر، مقدر على الأفارقة ان يعتاشوا على وهم التغيير الديمقراطي، وبالتالي على وهم تحسن الأوضاع المعيشية والاجتماعية، إلى ان يستفيقوا على انقلاب جديد. هل عرفت دولة ما، في جميع دول العالم، أي خير من العسكر، حين يستولون على الحكم؟