عمر أربيب
يظهر أن السيد وزير العدل يريد العودة إلى الوراء ونزع صفة الكوني عن المواطن المغربي، ويخندقه في خانة الإنسان المنعزل او المميز بصفات مختلفة عن الآخر وأقل درجة منه.
فالإنسان أصبح كائنا كونيا بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان تسري عليه كل الإتفاقيات والعهود والإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، والعودة بالمواطن المغربي إلى مراحل ما قبل عصر الحداثة وإغلاق باب التطور والتطلع وتنفس عبق الحرية والمساواة والكرامة وغيرها من القيم والحقوق التي كافح من أجل أن يتمتع بها ، أو ناضل لجعلها متضمنة في صكوك دولية لن ينال مراده لأن وزير العدل يفصل حسب مزاجه عوالم الحقوق والحريات بعيدا عن السيرورات والديناميات المجتمعية وإشتغال العقل والفكر البشري.
كما أن السيد وزير العدل بعودته للخصوصية والتمترس خلف جدارها السميك وفضاءها المغلق يبرهن أو يتنكر لتضمين الخصوصيات ضمن المرجعية الكونية والشاملة لحقوق الإنسان، وهذا ما فطن له منذ البداية المنتظم الدولي بمختلف ثقافاته وعقائده وتعدد شعوبه ، كما يحاول أن يلغي التعدد ويقدم قراءة مشوهة للمجتمع ويسترخص مجال الحقوق والحريات على المواطن ، ويخضعها لغايات رجعية وخدمتها، يريدها ان تتعايش مع اللبرالية ليس بأهدافها الفكرية ولكن في بعدها الاستغلالي الاقتصادي والاجتماعي دون ان ينبس بكلمة حول نقد اللبرالية المتوحشة وأدواتها، وكأن الخصوصية تتجلى فقط فيما توجه إليه وزير العدل.
فالإنخراط في العولمة الليبرالية المتوحشة والشراكات الإقتصادية غير المتكافئة والإرتهان للهجوم الإمبريالي بكل انعكاساته السلبية ، خيار لا رجعة فيه بالنسبة للحكومة التي يعد فيها الأستاذ وهبي وزيرا، وكل من ينتقد أو يواجه هذه التوجهات والسياسات عدمي وخارج دائرة التاريخ وما راكمته الإنسانية ، وكل مطالبة بالحقوق والحريات الأساسية سواء الفردية أو الجماعية ، والمستندة على القيم الكونية أو الشمولية فهو انحراف نحو الغرب المهيمن وضرب للخصوصية كما يتوهم الوزير ، ويبدو أن هناك أسوار صينية تفصل بين مجالات الحقوق وقطائع نظرية وفكرية مرسومة سلفا في العقل الجمعي ونشاطات مجتمعية مستقلة للكائن البشري أو فاعلة في تشكل وعيه حسب الابداع النظري لما بعد الماضوية للسيد الوزير.
ونرى أنه لا يمكن الفصل بين تداخل كل الحقوق وتمازجها وأيضا التشكيلات المجتمعية والتأثيرات الاقتصادية وغيرها في تمثل حقوق الإنسان، فلا يمكن نزع الإنسان من واقعه ومحيطه ورسم حدود له ودوائر مغلقة مغلفة برئية اديولوجية معينة لفرض نوع من الهجانة في المجال الحقوقي كما هو شأن الديمقراطية الهجينة في بلادنا والعديد من الأقطار. إن حقوق الإنسان كما نصورها في شموليتها وكونيتها ، تاريخية ومستنبطة من رحم الصراع وانها ذات أبعاد تتدخل فيها كل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والفلسفية أنها نتاج للعقل البشري بكل تراكماته وحضاراته.
يبدو أن السيد الوزير يلغي العقل الشرقي واللاتيني والآسيوي وإسهام كل الثقافات والحضارات في إنتاج القيم الكونية لحقوق الانسانية بما فيها القديمة او الحاملة لمشاريع مجتمعية لاهوتية سواء توحيدية او مثولوجية وروحية ، واسهاماتها ايضا السياسية في تنظيم المجتمع وشؤون تسييره والعلاقات البينية للدول ، وتدبير السياسات في زمن الحرب كما زمن السلم ، وانفتاح العقل والفكر العقلاني الفلسفي والعلمي وتجاوزه ونقده للفكر الديني ، والابداع في مجالات الآدب والفنون ، فهل ينكر عنا السيد وهبي ذلك، كما ان الوزير يريد طمس ووأد مساهمات الشعوب في احداث التطور النوعي والكيفي في المنظومة المعيارية لحقوق الإنسان واجتهادات دول الجنوب وسعيها لفرض مفاهيم وحتى اتفاقيات أو اعلانات تنسجم وتطور المجتمعات .
هل نسي السيد وزير العدل نضالات ومقاومات شعوب الجنوب للإستعمار والنهب ، وكذا مطالبتها بحقها في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي، وضغطها من أجل حقها في الاستقلال وجواز كل أشكال مقاومته، وحقها في التنمية وفي مساواة الدول في الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها الفرعية
أن حقوق الإنسان في تجلياتها الحديثة تبدو أنها نتاج ثورة الأنوار في أوروبا، لكنها في الواقع هي تراكم فكري وفلسفي وسياسي للضمير البشري ، فلا شيئ آت من العدم أو وليد قطيعة قطعية وباثة مع مرحلة تاريخية سابقة بكل منتوجها ومولاتها.
نعم يبدو ظاهريا أن فلسفة الأنوار والثورة الفرنسية والثورة الصناعية في انجلترا وولادة الولايات المتحدة الأمريكية، هي التجسيد الواقعي والفكري لحقوق الإنسان عند تحولها إلى منظومة قيم وقوانين وبعدها تعهدات دولية جعلت الإنسان ينتقل من مواطن ضمن الدولة الأمة إلى كائن عالمي كوني تضمن حقوقه مواثيق متوافق عليها عالميا وتتصور حسب ما يفرض الواقع والحاجة والغايات النبيلة للعيش المشترك.لكن هذا لا يلغي حضور باقي الحضارات والأنماط الفكرية المخالفة لما يسمى العالم الحر في فرز توازنات وابداع وصياغة اتفاقيات وعهود تنهل من الفكر غير الغربي.
أن السيد وزير العدل بإلغاءه للكونية في مجال حقوق الإنسان يبخس دور باقي الحضارات ويناقض نفسه ويحشر الحضارة الإسلامية في زاوية ضيقة ووصمها بالعجز وعدم القدرة تاريخيا على المساهمة في إنتاج القيم والأفكار والمعارف التي تساهم في التطور والتقدم ، بوعي يسقط الوزير في الماضوية ويشرعن لانتهاكات العهود والاتفاقيات التي تعد الدولة المغربية طرفا فيها، بل يتنكر لما ورد في ديباجة الدستور وحتى بعض فصوله الواردة في باب الحقوق والحريات .
لا شك أن السيد الوزير يعلم أن استعمال حقوق الإنسان سيف ذو حدود ، وأن الغرب الذي يعتبره العقل المنتج والمدافع عن حقوق الإنسان في تجلياتها الحالية قد إستعمل حقوق الإنسان لتقوية الأنظمة الاستبدادية في العديد من المناطق مقابل جني أرباح إقتصادية. كما هذا الغرب يعرف في مراحل تاريخية معينة تضييقا على حقوق الإنسان داخل فضاءه نفسه، دون أن ننسى استعماله السياسي المصلحي للمنظومة الحقوقية، وطبعا يدافع بدراسة وقوة عن حقوق الإنسان التي تتمشى وعقيدته الاقتصادية وأديولوجيته المسوقة والحامية للبرالية المتوحشة. نعم اننا نعي كل هذا ولكن ان نتخلص من المرجعية الكونية لفرض مرجعية متخلفة فهذا في نظرنا انصياع للغرب واديولوجيته ودعم له وانخراط في مشروعه السياسي والاقتصادي الهيمني . ونعتقد ان اسلوب المواجهة ليس الدعوة للخصوصية ولكن في الدفع في اتجاه احترام المتفق عليه كونيا وتطبيقه واحترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ومواجهة كل السياسات المنفلتة من عقال القانون الدولي العام او الخاص.
اقول للسيد وزير العدل بعد 75 من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وضع الأسس المعيارية والاخلاقية والقانونية والسياسية والقيمية لمنظومة حقوق الانسان، لم يعد مقبولا الارتكاز والارتكاس للثقافة الإنغلاقية الأوحادية، وللمجهود الفكري والكفاحي للشعوب الاخرى، ولم يعد مقبول اغفال الطفرة الحقوقية التي تبقى مجالا مفتوحا للصراع السياسي وللقيم ، فلقد فرض التطور التاريخي وفي فترة وجيزة تراكم أجيال من حقوق الإنسان فرضها التحول والحاجة واجتهادات الفكر البشري، فالحق في التنمية والبيئة السليمة ومواجهة تدميرها ، والحق في مواجهة وتجريم العدوان، وفي محاربة الفقر وتقليص الفوارق بين الشمال والجنوب ومحاربة الجوع والفقر والحق في الرفاه وفي التمتع بكل مقومات المواطنة والحق في الحماية الاجتماعية وحرية التنقل وحرية المعتقد والحق في حماية المعطيات الشخصية ومحاكمة مجرمي الحرب وضد الانسانية،وتقديم الشكاوي امام الآليات غير التعاهدية والتعاهدية ،وغيرها كل حقوق أصبحت ذات الأولوية وحاضرة كإنشغالات أساسية لدى شعوب الجنوب. بالإضافة إلى الإنشغال بالجيل الاول والثاني والثالث وربما أصبحنا في الجيل الخامس وقد تفرض التطورات المتسارعة للحضارة الإنسانية أجيال أخرى كحل لمعظلات أو متطلبات فرضها تطور العلاقات الاجتماعية وحاجيات المواطن.
فما يبدو اليوم غريبا قيد يصبح غدا حقا، وما كان مطلبا غير شرعي ومستحيل بالأمس أصبح حقا مكفولا اليوم. ولا يمكن للسيد وزير العدل أن يعيد حركة التاريخ للوراء، وبالتالي فما صدر عنه يندرج في خانة الإنفعال وردة فعل لتبرير عدم مطابقة بعض القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان، وتمديد والتمهيد للتراجعات وإيجاد المسوغات في ذلك بالعزف على الوثر الديني الذي يعد الأساس للخصوصية ، وهنا سقط السيد وزير العدل في تناقض جلي بين خطابه الموجه للأطراف السياسية وللعموم في الداخل ، وبين ما يستعرضه في منتديات خارجية ، مما يجعلنا أمام ازدواجية في الخطاب ولكن أمام تابث هو عدم استعداد الدولة للإرتقاء بالوضع الحقوقي تشريعا وقانونيا وممارسة والإحتماء بخطاب هوياتي وعقائدي انغلاقي يستهدف استدامة عدم انتهاكات حقوق الانسان وعدم مطابقة ما يصدر من تشريع مع الالتزامات الدولية، فهل هناك من خطاب أو ممارسة أو ديمقراطية هجينة اكثر من هذا؟ وهل يمكن للسيد وزير العدل باسم الخصوصية أن يرافع من أجل الإنغلاق الاقتصادي والمعرفي والعلمي وبناء جدار قوي لا يسمح بالتبادل الحر في المجال الاقتصادي ؟ وهل السيد وزير العدل قادر ويمتلك الشجاعة السياسية والقانونية للقول أمام المجلس الدولي لحقوق الانسان، وأثناء الاستعراض الدوري الشامل، أو لجن المعاهدات أو حتى داخل الأمم المتحدة أن المنظومة الحقوقية بآلياتها ومعاييرها غير ملزمة لبلدنا بحكم الخصوصية كما يتصورها ويسوقها.
هذا الهروب والاحتماء بالخصوصية مؤشر دال على كل مشاريع القوانين الآتية القادم تعديلها ستعتمد على المقاربة الهجينة التي من ضمن قواعدها الأساسية المرجعية الدينية وخاصة الشريعة، واستحضر هنا القانون الجنائي ومدونة الأسرة، وليس غريبا بعد هاذ التمهيد وضعف المؤسسة التشريعية أن يتم إنتاج نصوص قانونية اكثر معادات واختلاف مع المعايير والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.