كلامكم
عن منشورات باب الحكمة صدر، حديثا، للشاعر والكاتب المغربي مخلص الصغير كتاب “النشيد الدامي”، وهو مختارات شعرية من قصائد الشاعر السوري نوري الجراح، رافقتها رسومات وأعمال للفنان التشكيلي المغربي حسن الشاعر. وتضم هذه الأنطولوجيا الشعرية قصائد مستنبطة من سبعة دواوين، الأول والثاني صدرا تباعا، سنتي 2013 و2014. والثالث والرابع في سنة (2018)، والخامس في السنة الموالية (2019)، والسادس في سنة 2023. إلى جانب نصوص من ديوان لم ينشر بعد، بعنوان “ندم سقراط”. وهكذا، فقد نشرت هذه القصائد المختارة خلال العشر سنوات الأخيرة (2013-2023)، وظهرت بعد خمس سنوات من صدور الجزء الثاني من الأعمال الشعرية للشاعر، سنة 2008. ونصفها متضمن في الجزء الثالث من أعماله الشعرية الصادرة عام 2022.
كما كتبت هذه القصائد بعد اندلاع “الربيع العربي”، وما أصاب الأرض العربية واعتراها من خراب ويباب في هذه الفترة، خاصة في بلد الشاعر “سوريا”.
صدرت لنوري الجراح مختارات شعرية بالفرنسية والإنجليزية واليونانية والفارسية والإيطالية والتركية والهولندية والإسبانية، كما ترجمت دواوينه إلى العديد من اللغات الحية. بينما ستصدر هذه السنة بمدريد ترجمة إسبانية لهذه المختارات التي صدرت بالمغرب.
وبحسب مخلص الصغير، “تمثل تجربة الشاعر السوري نوري الجراح أقصى درجات التحديث في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة، بينما تضم هذه المختارات الشعرية أشد قصائده تعبيرا عن هذه الشعرية وتمثيلا لها”…
ولعل هذا الشعر المعاصر، كما تضمه الأنطولوجيا، هو ما آثر الناقد العربي خلدون الشمعة أن يصطلح عليه اسم “الحداثة الثالثة”، وهو يقرأ شعر نوري الجراح. وكان القصد من وراء ذلك أن التجارب الكلاسيكية في فجر النهضة “حداثة أولى”، تليها “حداثة ثانية”، تجلت في تفعيلية نازك والسياب، ونزار، في تجارب غزيرة، بلغت مداها ومنتهاها مع درويش… بينما جاءت الحداثة الثالثة متحررة من كل المواضعات، مع شعراء انتصروا، منذ البداية، لقصيدة النثر، أو للشعر الحر، من أنسي الحاج… إلى محمد الصباغ إلى نوري الجراح…
تسمية “الشعر الحر” هذه هي التي ينحاز لها نوري الجراح، أيضا، يقينا منه أنْ لا كتابةَ شعريةً إلا عندما تتحرر من كل تصور سابق على الكتابة ذاتها. وبمعنى آخر، لا يمكن أن نكتب شعرنا اليوم بلغة الماضي، لأنه لن يندرج ضمن ما نسميه “الشعر المعاصر”، حيث ما عاد شعرنا، اليوم، ينتمي إلى تقليد معين، أو إلى حركة أو مذهب أو تيار، على مستوى الإيقاع كما على مستوى الرؤى والأساليب. إنما الشعر المعاصر موقف شعري من العالم، وتجاوز للغة باللغة ذاتها. ولعل هذا هو الصراع الفني الذي يكابده الشاعر باستمرار، والتحدي الجمالي الذي يعيشه المتلقي مع الشعر المعاصر. لكن القصد عند نوري الجراح هو “القصيدة الحرة”، تحديدا… فبعدما احتفت نازك ومن جرى مجراها بتحرر القصيدة من نظام الشطرين ووحدة القافية، ها هي تتخلص، مع نوري، ومن سبقه وعاصره في هذا الباب، من كل قيد إيقاعي، أو من أغلال بلاغية سابقة، أو من أفق تخييلي مسقوف، ما يجعل هذه القصيدة الحرة، بما هي قصيدة نثر، تخوض منعطفا كتابيا فارقا، وهي تدشن نوعا من القطيعة الشعرية مع مراحل التحديث السابقة.
ولئن كان الشعر المعاصر موقفا من العالم واللغة، فإن الاختيارات الشعرية موقف جمالي أيضا. من هنا، كان لهذه الاختيارات ما يسوغها ويبررها، وما ينتظمها ويعمق إشكاليتها الجمالية. فأغلب مشاهد الديوان تجري وقائعها في البحر الأبيض المتوسط، وقد تحول إلى قارب كبير يقل اللاجئين والهاربين من “الجحيم العربي” المستعر. هذه الرحلة التراجيدية للإنسان العربي، والمحفوفة بموج المنايا على قوارب الموت، منذ عشر سنوات، هي الرحلة نفسها التي خاضها الشاعر نفسه قبل ثلاثين سنة، هاربا من جحيم النظام السياسي نحو المنافي، عبر خريطة الطريق نفسها التي يعبرها اللاجئون السوريون من سواحل اليونان وتركيا في اتجاه أوروبا. يستحيل الشاعر هنا إلى نبي بلا معجزة، وبطل بلا مجد، يقتفي الناس آثاره مكرهين. ويمثل ديوان “قارب إلى لسبوس” هذه الاستعارة الكبرى، بينما تتواصل الاستعارة نفسها، وقد تحولت إلى حقيقة، في الديوان الموالي “نهر على صليب”، منذ القصيدة الأولى “الخروج من شرق المتوسط”.
من هنا، تقيم قصائد الديوان حوارا مع الكثير من الأساطير والملاحم والمدونات الشعرية المتوسطية الكبرى، والتي تعود إلى آلاف السنين، وأخرى إلى عهود قريبة. ما يضعنا أمام فضاء شعري موسع ينتمي إليه الشاعر هو الفضاء المتوسطي، وليس الفضاء السوري أو العربي فقط.
وفي الأخير، فإن “النشيد الدامي” ليس تجميعا لنصوص شعرية متفرقة، ولا محضَ تلفيقٍ لقصائد متقاربة في أزمنة الكتابة وأفضيتها، ولكنه عمل فني يجمع بين الشعر والتشكيل، وبين مشارق الأرض ومغاربها، ليسألنا، سؤالا جماعيا، عن مآل القصيدة العربية ومصيرها، ضمن السؤال الأعم عن مصيرنا التراجيدي المشترك على هذه الأرض، على ضفاف المتوسط، وعلى إيقاع هذا “النشيد الدامي”.