بقلم: ياسين عدنان
هناك دعوات يصعب الاعتذار عنها. لأنّها صادرة عن فاعلين ثقافيين مستقلّين من النوع الذي ما زال يحفر في الصخر. ولهذا سافرت قبل أيام إلى أكادير.
الدعوة الأولى كانت من الفاعل الثقافي طه بلافريج صاحب معهد Connect بأكادير. وهو المعهد الذي صارت له اليوم شبكة وطنية لها فروع في أكثر من مدينة، ودورُه في تحفيز الشباب وتحرير طاقاتهم مشهود. أمّا المناسبةُ فَصدورُ الترجمة العربية لكتاب Héritages الذي نشره طه بلافريج باللغة الفرنسية العام الماضي،
واليوم ظهرت ترجمته العربية التي أنجزها الصديقان عبد الكريم الجويطي وسعيد عاهد تحت عنوان “إرث وآثار”. اللقاء كان فرصة لتقديم هذا الكتاب العصيِّ على التصنيف. كتابُ مقالاتٍ سرعان ما تتحوّل إلى حكايات. مقالاتٌ مكتوبة بضمير المتكلم، بأناه ويائِه، تحكي قصص الأصل والفصل والأب والأم، مكتبة الأب، تطريزات الأم، مسؤوليات العمّ السياسية، وغير ذلك. “إرث وآثار” كتابُ محاوَرةٍ ومُجاوَرة. كتابٌ يُحاور كتب الآخرين من القدماء والمحدثين، ويتجاور داخله بسلاسةٍ المنفلوطي مع بورخيس، ابن رشد مع ريجيس دوبريه، المعرّي مع أم كلثوم، قلعة السراغنة مع مونبولييه، والسينما مع الطرز الرباطي. إنّه كتابٌ ما بعد حداثي، أولًا بسبب الحرية التي كُتب بها خارج حسابات التجنيس، وأيضًا بسبب منطق المُجاوَرة داخله. ومن نقاط قوّة الكتاب براعةُ الرّص: رصُّ هذه الجِوارات بطريقة يأتلفُ بها المُختلِف، ثم هناك سلاسة الاستطرادات التي يُجيدها الكاتب فتجعلنا ننسابُ معه من موضوع فكري إلى قضية سياسية إلى لحظة بوح ذاتي. السلاسة مضمونة في كتاب طه بلافريج، والمتعة أيضًا.
أثارني ونحن نناقش الكتاب أمام لفيفٍ من الشباب والطلبة، كهل أنيق يجلس في الصف الأخير. بعد انتهاء اللقاء تأكّدتُ أن الأمر يتعلق بوالي أكادير شخصيا. حضر أحمد حجي من دون بروتوكول وجلس في الصف الخلفي يتابع نقاشنا في هدوء. كان اللقاء مع السيد الوالي فرصة لاستحضار التجربة الفريدة لعمّه سعيد حجي (1912 -1942) الذي اعتُبِرَ “فجر الصحافة المغربية”، ورغم رحيله المبكّر وهو لم يتجاوز سنّ الثلاثين فقد كرّس اسمه في طليعة رواد صحافتنا الوطنية. أذكر مقالته الشهيرة “شباب غُفل” التي تلقّاها جيلنا في إحدى مقرّرات المرحلة الإعدادية. كلما عدتُ إلى هذه المقالة، التي حرص طه بلافريج على التوقف عندها في كتابه، وجدتُها لا تزال صالحةً لوصفِ واقع الحال في أيّامنا هذه رغم أنها كُتِبَت قبل ثمانية عقود ونصف: “إنّ هذه الطائفة من الشباب أبعد الجماعات المغربية عن فهم مُهمّتها في الحياة. فلا تكاد تجد زمرة منها تشغل بالها بفكرة علمية، أو شغف فني، أو محاولة مستقلة في ميادين الاقتصاد. بل إن أغلبها لم يتذوّق حتى المطالعة في كتب المتعة واللذة من روايات وقصص. حاول أن تجد فردا من هذه الجماعات يشغل نفسه بنظرية فلسفية ينتصر لها، أو بفكرة اجتماعية يراها سُلّم النجاة لأمّته.” قبل أن يَخْلص سعيد حجي في الختام إلى أن الأمر يتعلق بشباب “كسول لا يحسّ بآلامٍ ولا يشعر بآمال. شبابٌ غُفْلٌ لا يُرجى خيرُه ولا يُخشى شرُّه.”
فكّرتُ في “طوطو” وما يثيره من سجالٍ بلغ قبة البرلمان. وأخشى فقط أنّه سجالٌ مُفتعَلٌ الغرضُ منه إلهاء المغاربة عن قضاياهم الحقيقية. فكّرتُ في شبيبتنا الإلكترونية، من نجوم أو بالأحرى ضحايا اليوتيوب وروتيني اليومي، في هوسها المُريع بحشد المشاهدات واللايكات ولو كلّفها ذلك التعريض المازوشي للذات – فرديةً وجماعيةً – للإساءة والتحقير. خمّنتُ لو عاش سعيد حجي إلى يوم الناس هذا، لربما جاءت مقالته أكثر قتامة. لكن مع ذلك، أنا أميل إلى الإشادة بكلِّ من يُشعِل شمعةً بدل التفنُّن في لعن الظلام. لذلك، لبّيتُ دعوة معهد كونيكت. ولذلك أيضًا يمّمتُ شطر أولاد تايمة.
تلقّيتُ الدعوة من الفاعل الثقافي الصديق عبد الله جريد الذي سبق ودعاني إلى أكثر من فعالية في مدينته التي تُعتبر إحدى أهم عواصم الحوامض في المغرب. يرأس عبد الله جريد النادي الفلاحي الهواري، الذي تشرّفتُ بالمشاركة في الندوة الافتتاحية لموسمه الثقافي إلى جانب الدكتور حسن بنحليمة العميد السابق لجامعة ابن زهر، والصديق عز الدين بونيت الناقد المسرحي والمدير الجهوي السابق لوزارة الثقافة بأكادير، والصديق عادل عبد اللطيف البلاغي الرّصين ورفيق “تجربة الحلم والغبار” زمن الشباب واليسار. أمّا الندوة فجاءت في موضوع “تدبير الشأن الثقافي”. كانت الندوة فرصة لطرح العديد من الأسئلة بخصوص التخطيط والتدبير في المجال الثقافي في بلادنا. لكن هل يمكننا التخطيط للثقافة في غياب سياسة ثقافية واضحة المعالم؟ ثم هل لدينا أصلًا منظومة ثقافية وطنية في هذا البلد؟ وقفنا خلال الندوة على غياب منطق التراكم والسيرورة وسيادة القطائع ما بين التجارب الوزارية المتتالية. ووقفنا أيضا على غياب التشبيك وضعف الشراكات ما بين قطاع الثقافة من جهة وقطاعَيْ التعليم والسياحة من جهة أخرى، وهما معًا قطاعان لا غنى عنهما لكل تنمية ثقافية شاملة. ثم سجّلنا غياب التفاعل والتشبيك ما بين مجالات الإنتاج الأدبي والفني والفكري. فالمبدعون المغاربة لا يشتغلون مع الأسف بمنطق تكامل الفنون والآداب. هكذا مثلا، لم يستفد السرد القصصي والروائي في بلادنا من الفورة السينمائية التي عرفها المغرب في الفترة الأخيرة، ولم ينفتح الشعر المغربي كفاية على باقي الأجناس الفنية من مسرح وتشكيل وغيره ليغادر عزلته ويوسّع من مجال إشعاعه.
كانت مداخل النقاش متعدّدة وجمهور الندوة التي يضمُّ نخبة من شباب هوارة بدا متحفّزا يؤرّقه الموضوع ويشغله بعُمق. هكذا هي النقاشات دائما في المدن الصغرى، التي يعتبرها المركز نائية، تؤكّد لك دائما أن هناك شبابًا “غير غفل” يعيش بين ظهرانينا وعلينا أن نفسح له المجال. لدينا شبيبة متحفّزة ترفض أن تُحْسَب على جمهور طوطو وألتراسات نوادي كرة القدم.
مشكلة المغرب هي الاختزال، والنظر الضيق البسيط إلى الفقاعات التي تطفو على السطح. أمّا المغرب العميق، فلديه شبيبةٌ ما زال يشغلها سؤال المعنى. لذلك أسعد كلما وجدتُنِي في حوار معها بعيدًا عن الزعيق. وهو ما تحقّق لي لحسن الحظ في ندوتَيْ أكادير وأولاد تايمة.
فشكرًا لهذا الشباب الرصين اليقظ الذي يمنح الأمل.. وشكرا لكل من يناضل ليؤمِّن له فضاءاتٍ للنقاش والتفكير الجماعي في قضايا البلد، بعيدا عن ضجيج المركز وفقاعاته التي من زَبَد.