أصول احتفال المغاربة بعيد المولد النبوي و احتفال السلطان أحمد المنصور الذهبي به

أصول احتفال المغاربة بعيد المولد النبوي و احتفال السلطان أحمد المنصور الذهبي به

- ‎فيرأي, في الواجهة
1226
التعليقات على أصول احتفال المغاربة بعيد المولد النبوي و احتفال السلطان أحمد المنصور الذهبي به مغلقة

ذ /توفيق محمد لقبايبي
كلية الآداب ـ مراكش

 

نسعى من خلال هذه السطور المتواضعة الحديث عن جانب من سيرة أحمد المنصور الذهبي.
فالمعروف عن هذا العاهل أنه زيادة على شغفه بحضور مجالس العلم والعلماء ،كان يغتنم فرص المواسم والأعياد فيجعل منها مواسم ثقافية يتبارى فيها العلماء و الأدباء والشعراء . ومن هذه الأعياد عيد المولد النبوي الشريف .

1 ـ أصول وبدايات
ترجع بدايات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بالمغرب إلى منتصف القرن السابع للهجرة عندما استحدثت أسرة العزفيين السبتية ورؤسائها عادة الاحتفال بالمولد النبوي ، وألف كبيرهم يومئذ أبو العباس أحمد بن محمد العزفي المتوفى عام 639 هـ على عهد الخليفة الموحدي المرتضى كتاب «الدر المنظم في مولد النبي المعظم » الذي أكمله ابنه أبو القاسم المتوفى عام 677 هـ ، والذي تقول عنه المصادر بأنه أول من احتفل بالمولد في أول ربيع من إمارته عام 648هـ/1250م ، ويصف ابن عذارى المراكشي هذه الاحتفالات فيكتب : « ومن مآثره العظام ، قيامه بمولد النبي -عليه السلام – من هذا العام ، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام ، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام ، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام ، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام ، بالفرح والسرور والإطعام للخاص و العام ، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام » .
وقد تولع الخليفة الموحدي المرتضى بهذا الاحتفال حيث كان يحيي ليلة المولد بمراكش ، ويبدو أن الإنشاد والسماع كانا حاضرين أيضا كمحورين رئيسين في هذا الاحتفال بدليل احتفاظ كتب الأدب على قصيدة من هذا الغرض ألفها الشاعر الصوفي الأندلسي أحمد بن محمد الصباغ الأندلسي الجذامي سنعرض لقسم منها في حينها .
وقد عرفت احتفالات المولد ازدهارا كبيرا على العهدين المريني ثم الوطاسي ، فكان الملوك أنفسهم يرأسون مهرجانات المولد ليلة الثاني عشر من ربيع الأول ، كما أصدر السلطان أبو يعقوب يوسف المريني المتوفى سنة 691 هـ أمرا بوجوب إحياء ليلة المولد النبوي واعتبارها عيدا رسميا كعيدي الفطر والأضحى ، ويذكر ابن خلدون بأن ملوك الأندلس أصبحوا يحتفلون به اقتداء بملوك المغرب.
وقد أضاف أبو سعيد المريني الاحتفال باليوم السابع من العيد ، وإلى ذلك يشير أبو العباس أحمد بن عبد المنان الأنصاري الخزرجي المكناسي المتوفى عام 792 هـ في قصيدة يخاطب بها أبا عنان فيقول:
وموسم جــل قدرا باعتنـاك بـه۞راقت لياليه وازدانـــت سوابعــــه
كما أصبح توقيف العمل يوم المولد النبوي تقليدا متبعا في العهد المريني ، وإلى ذلك يشـير ملك بن المرحل ( ت 699 هـ ) إذ يقول مستعرضا بعض مراسيم الاحتفال بهذه المناسبة:
فحــــق لنـا أن نعتني بـميلاده۞ونجعل ذلك اليوم خير المواســـــم
وأن نصـل الأرحام فيــــه تقربا۞ ونغدو له من مفطــرين وصائـــــم
ونترك فيـــه الشغل إلا بطاعـة۞ومــا ليس فيـه مـن ملام ولائــــــم
وسرعان ما انتقل الاحتفال بالمولد النبوي إلى الأوساط الشعبية فكانت الحفلات تقام في الزوايا وحتى في المنازل ، وإلى ذلك يشير ابن الدراج السبتي ( ت 693 هـ ) في كتابه «الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع» فيذكر أن أكثر ما يتغنى به أهل فاس بهذه المناسبة تتصل موضوعاته بمدح الرسول وتشويق النفوس إلى زيارة البيت الحرام ومواقعه ، وإلى المدينة المنورة ومعالمها . كما يشير الحسن الوزان الفاسي في كتابه « وصف إفريقيا » إلى أن طلبة الكتاتيب القرآنية بفاس كانوا يقيمون احتفالا بالمولد النبوي ، ويأتي المعلم بمنشدين يتغنون بالأمداح النبوية طول الليل.

2 ـ احتفال المنصور الذهبي بذكرى مولد الرسول عليه السلام
وسوف يبلغ هذا الاحتفال قمة اكتماله وسيحظى بعناية فائقة من قبل الشرفاء السعديين ،ربما لأنهم رأوا انفسهم أحق بالاحتفال لمولد الرسول وهم من سلالته أكثر من العثمانيين الذين ليسوا كذلك . وتحتفظ المصادر المغربية بتفاصيل ضافية عن الاحتفالات بهذا العيد كما كانت تجري أيام المنصور أو في بلاطه ونذكر منها على الخصوص ما ورد عند سفير المنصور أبو الحسن التمكروتي ( ت 1003 هـ) في “النفحة المسكية في السفارة التركية “، وما ورد عند وزير قلمه عبد العزيز الفشتالي في “مناهل الصفا على مآثر موالينا الشرفا”،أو ما ورد عند أحمد بن القاضي في ” المنتقى المقصور على مآثر الخليفة المنصور” ، ومما يستفاد من النصوص الموجودة بين دفات هذه المصادر أن احتفالات المنصور كانت تتبع تنظيما محكما ،يسير على المنوال التالي .
ـ ففي فاتح ربيع الأول كان المنصوريصيّر ” الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية من المؤذنين النعارين في السحر بالأذان.. ” ، بمعنى أنه كان يوجه الدعوة إلى المؤذنين بالصعود إلى المآذن لإعلام الناس بدخول شهر ولادة المصطفى (ص) .
ـ تنظيم موكب لشموع المولد ،فقد أعجب أحمد المنصور الذهبي أثناء إقامته بإسطانبول التركية بالأجواء الاحتفالية التي كانت تقام بمناسبة مولد الرسول (ص) ، حيث كانت تنظم مواكب شعبية بالشموع ، وتنذر أحمد المنصور بتنظيم هذه الاحتفالات بالمغرب إذا أصبح سلطانا عليه ، وبعد أن وضعت معركة «وادي المخازن » أوزارها ، سارع إلى الوفاء بنذره ، فقام باستدعاء صناع الشموع المهرة من مراكش وسلا و فاس لصناعة هياكل شمعية كبيرة شبيهة بتلك التي شاهدها في تركيا .
وبالفعل تم الاحتفال بموسم الشموع في أول عيد المولد النبوي من حكم أحمد المنصور الذهبي في سنة 986هـ ، وفي ليلة المولد قبل الغروب يقوم الحمالون بعرض الشموع في الأزقة على مشهد من آلاف الجماهير،ثم يذهبون بها إلى القصر الملكي حيث توضع على منصات خاصة .
وقد وصف الفشتالي موكب الشموع هذا وصفا دقيقا ، حيث يقول : “… حتى إذا كانت ليلة الميلاد الكريم وقد أخذت الأهبة وتم الاستعداد وتناهى الاحتفال ، وتلاحقت الوفود من مشايخ الذكر والإنشاد تهيأ لحملها وزفاف كواعبها الحمالون المحترفون لحمل خذور العرائس عند الزفاف فيتزينون ويكونون في أجمل إشارة وأحسن منظر و يجتمع الناس من أطراف المدينة لرؤيتها . فيمكثون ( الحمالون ) حتى يسكن حر الظهيرة وتجنح الشمس للغروب فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفلن في حال الحسن وهي عدد كثير كالنخل ، يتقدمهم عريف الأشغال بالباب العالي مصلحا لشان أفلاكها ومعدلا لسيرها… فارتفعت أصوات الآلة وقرعت الطبول وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم ، وتتصاعد على الوصف من الزي العظيم ، والزفاف الجليل، حتى تستوي على منصات الشهرة بالإيوان الشريف” .
ـ في صبيحة يوم عيد المولد وبعد أن يقوم المنصور بأداء صلاة الفـجـر، يجلس على عرشه حيث تكون الشموع على مرأى منه، ثم يقوم المدعوون بالسلام عليه. ويصف الرحالة أبو الحسن التمكروتي في النفحة المسكية في السفارة التركية جانبا من المراسيم المتبعة في هذه الاحتفالات التي حضرها بعد قفوله من بلاد الترك بقوله : “… استدعى المنصور الناس لإيوانه السعيد و استدخلهم لقصره البديع ، وبينهم من يعرف ومن لا يعرف فيملأون القاعة ، ويجتمع بنفس المكان الجند والطلبة ثم ينقطع كل همس وتمتلئ القبة والفناء بالزائرين من مختلف الطبقات والقبائل ” ثم يبدأ المنشدون في إنشاد “القصائد ومقطعات في مدح النبي المكرم وفضل مولده العظيم ، ونظموا في ذلك الدر المنظوم ، وبالغوا في ذلك وأطنبوا… وانبسطوا بألسنة فصاح ونغمات ملاح وطرائق حسنة ، وفنون من الأوزان المستحسنة ، فأصغت الآذان عند ذلك بحسن الاستماع إلى محاسن السماع ”
ـ مساء العيد كانت تقام حفلة مسائية أخرى ولطرافتها ورونقها خصص لها عبد العزيز الفشتالي صفحات رائعة في كتابه. ومن خلال وصفه نستفيد أن هذه الحفلة كان لها جانبان :
الجانب الأول : من حيث الشكل والمظهر.
الجانب الثاني : من حيث المضمون والجوهـر.
فمن حيث الشكل و المظهر، فقد كانت في غاية الأبهة والجلال والرونق،حيث كانت هذه الحفلات تقام بالقبة الخمسينية من قصر البديع وكان العاهل يرتدي زيا أبيضا خاصا مكون من قفطان و هو معطف طويل بأكمام طويلة و فوقه شبه معطف آخر خفيف بأزرار يسمى “المنصورية ” نسبة إليه لأنه هو من ابتكره ، وللتغلب على فضفضة هذا اللباس الذي لا يساعد على خفة الحركة استعمل المضمة وهي حزام عريض سمي كذلك لأنه ضم إلى الجسم، وفي هذا يقول الفشتالي : ” ثم يقتعد أريكة قبته وسرير ملكه وعليه خلع البياض شعار الدولة الكريمة ” ،ويقف على رأس السلطان الوصفان و العلوج وعليهم الأقبية و المناطق والأحزمة المدورة المشدودة المذهبة .
أما من حيث المضمون فقد كانت حفلة المولد النبوي عبارة عن سوق أدبية يتبارى فيها الفنانون والشعراء والكتاب والعلماء. ولنستمع مرة أخرى إلى عبد العزيز الفشتالي وهو يسترسل في أوصافه لاحتفالات المنصور بالمولد حيث يقول بأن أول من يفتح المجلس هو الواعظ الذي يعدد شمائل النبي (ص): “فإذا استوت الورود (الوفود)، واصطفت الصفوف وتقاربت الأجناس وتآلفت الأشكال ، ورضيت مقاعدها السراة (…) يتقدم أهل الذكر والإنشاد الكريمة ، تقدم أهل الذكر المزمزمون بكلام أبي الحسن الششتري رضي الله عنه ، وكلام القوم من المتصوفة أهل ، يتقدمهم مشايخهم من بعد أن يفرغ الواعظ من قراءة ما يناسب المقام من الاستفتاح لفضائل النبي صلى الله عليه وسلم ، وسرد معجزاته ، والثناء على شريف مقامه ، وعلى جلاله ” ثم يأتي بعد ذلك دور أهل الذكر من الصوفية المادحين “لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة ، في مدائح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يخصها اصطلاح العرف باسم (المولوديات) نسبة إلى المولد النبوي الكريم ، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس و الأرواح ، وترق لها الطباع ، وتبعث في الصدور الخشوع ، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم ، يتفننون في ألحانها على حسب تفننها في النظم ، فإذا أخذت النفوس حظها من الاستماع بألحان المولوديات الرقائق ، كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيتين من نفيس الشعر” ويقصد بهما بيتين من قصيدة مكونة من 13 بيتا للشاعر الأندلسي أبو عبد الله محمد بن أحمد الصباغ الأندلسي الجذامي الذي عاش في فترة المرتضى الموحدي يقول في مطلعها:
تنعم بذكر الهاشـمي محمد ۞ ففي ذكره العيش المهنأ والأنـــسُ
و جرت العادة أنه عند الانتهاء في السرد إلى ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يكون وقوف الحاضرين جماعيا وإنشادهما لهذين البيتين:
أيا سامعي ذكر الحبيب تأهبوا ۞ وقوموا بنا نشكو فقد سامنا اليأس وقوفا على الأقدام في حق سيد ۞ تعظمه الأملاك والـــــــجن و الإنس

إن هذا النص يمدنا بتفاصيل نفيسة عن ثلاثة أشياء هامة :
أولها : إعطاء الشعراء المغاربة للقصيدة المولدية طابعها المميّز الذي استمر منذ عهد أحمد المنصور إلى الآن ، ذلكم أن الشاعر كان يمدح النبي (ص) وكان يتحدث عن المناسبة ، ثم ينطلق لمدح الســـــــــــــــــــلطان وللإشادة به وبمواقفه … الخ. وهذا المزج بين المدح النبوي وبين مدح السلطان هو أهم ما يميز القصيدة المولدية طوال هذه القرون الخمسة أو الستة المتأخرة ، وهو ما زال قائما لحد الآن.
ثانيها : أن هذا النص يضيء لنا بعض قسمات فن السماع خلال العصر السعدي ، وخصوصا ما تعلق منه بأسلوب الإنشاد حيث يسجل تطور هذا الأسلوب وفق النهج الأندلسي ، وذلك من خلال التفنن في إنـــــشاد

الموشحات والعناية بإنشاد “البيتين” ، مع تحين ” المناسبة ” بين الأشعار والتنسيق بين معانيها.
ثالثها :نسجل في النص إشارة هامة توحي بنوع من التمييز في السماع بين “إنشاد المولديات”؛ أي القصائد الخاصة بالمولد النبوي الشريف ، وبين ” الزمزمة بكلام القوم “؛ أي التغني بمرددات الصوفية في حِلَقة الذكر ، وهو التمييز الذي سوف يتبلور بشكل واضح لاحقا بين شق المديح النبوي وشق كلام القوم في فن السماع .
وتنتهي الحفلة بإلقاء قصائد شعرية يلقيها بالتناوب القاضي ابي علي الشاطبي والوزير أبو الحسن علي بن منصور ، والوزير أبو فارس عبد العزيز الفشتالي ،ومحمد الهوزالي ، والفقيه علي المسفيوي وغيرهم ، وهذه القصائد ذكر نصها كاملا عبد العزيز الفشتالي في مناهل الصفا .
ويختم التجمع الديني بوليمة قال عنها التمكروتي ” تحضر عندئذ أنواع الأطعمة في الجفان المالقية و البلنسية المذهبة و الأواني التركية و الهندية ، ثم يتناول المدعوون الفواكه والحلويات المتنوعة ، ويغسلون أيديهم إثر ذلك ويمسحونها بمناديل مطرزة ، ثم تصف المباخر فتنبعث منها روائح العنبر والجاوي والعود ” ويصف الفشتالي كيف تطعم الطبقة الأولى من الناس ، ثم كيف تطعم الطبقة الثانية من الفقراء والمحتاجين وغيرهم ، ومع ذلك يبقى من الطعام ما يشكل الهضاب والجبال على حد تعبيره.
ـ وفي سابع عيد المولد يقام حفل لا يقل فخامة أيضا ، إذ هو يوم عقيقة النبي (ص )، وفيه تمنح هبات ملكية سنية للأدباء والعلماء والشعراء والكتاب وغيرهم…كما كان المنصور يجزل عطاءاته على الفقراء و الصوفية وعن هذا اليوم يقول الفشتالي : « فإذا انصرفت أيام الوليمة الشريفة ،برزت صلات الشعراء وعليها التوقيع الشريف فينثر عليهم و تشفع لعلية المشايخ بالخلع الشريفة ، تقبل الله من أمير المؤمنين وأجزل مثوبته وضاعـــــف له الجزاء الأوفى في دار النعيم » .
فكانت احتفالات رائعة في منظرها، ونافعة لذوي الحاجات والأغراض، وفرصة من فرص العمر ينتظرها الناس في شوق ورغبة…

 

*أستاذ التاريخ بكلية الاداب والعلوم الانسانية بمراكش

يمكنك ايضا ان تقرأ

بتعليمات سامية من الملك: ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء

كلامكم بتوجيهات سامية من الملك محمد السادس، استقبل