بقلم : د. حسن إدوعزيز
وما إن رفعت رأسها، وهي تسحب تذكرة البراق من الشباك بمحطة المسافرين، حتى وقعت عيناها على عينيه.. فتسمرت في مكانها من هول المصادفة.. غالبها الحرج، قبل أن تبادر مترددة.. ومتمتمة بالتحية..، ليرد تحيتها بخجل بالغ..، معبرا عن سعادته بالصدفة الجميلة التي ساقتها إليه من جديد.. في تلك اللحظة والمكان المقدرين بحساب..
استسلمت للتأمل في تفاصيل قسماته وما فعله بها الزمن، بينما هو يمعن النظر في سواد عينيها اللوزيتين الغائرتين.. اللتين حافظتا على إثارتهما العجيبة… مع مسحة أربعينية لم تزد صدرها البارز وباقي أطرافها إلا نضجا وجاذبية.. ساح بها التذكر عميقا لتسترجع سالف عهدها به.. عندما قابلته لأول مرة بالكلية، حيث كانا يدرسان في نفس الفصل بشعبة اللغة الانجليزية ذات خريف نهاية التسعينيات… عرفته لطيفا جدا.. إذ كانت لا تشبع من النظر إليه، ومن نظراته.. بل كانت كثيرا ما تتجنبه، كي لا ينفضح أمرها وحديث نظراتها المفضوح بين المشاكسات من رفيقاتها، و”بنات الحرام”، كما تسميهن، ممن لا يهملن تفاصيل أية صغيرة أو كبيرة إلا وأحصينها…
تتذكر جيدا كيف اشتهر بين زملائه بجرأته الزائدة وعينه الزائغة، بينما كانت هي خجولة جدا.. لتسترجع صباح تلك الجمعة المشهود، عندما التقيا أمام المدرج الفارغ، وفطنا متأخرين بأنهما الوحيدين اللذين لم يعلما بغياب أستاذ مادة التراكيب.. فدعاها، كما تنبأ حدسها أنذاك، لتناول فنجان بنّ رديء بالمقصف البئيس للكلية..
كان ذلك منذ ربع قرن تقريبا.. قبل أن تفترق بهما السبل، بعدما اختارت الهجرة لاستكمال دراستها بإيطاليا، حيث يقيم والدها..؛ وقبل أن يقرر هو الالتحاق بسلك التربية والتعليم… تنهدت بعمق مثير، وهي تنصت إليه..، وتطلق العنان في ذات الحين لذاكرتها الطرية.. فاستعادت ما مرت به من علاقات متعددة ومركبة ونمطية بعد فراقه.. وهي تسافر إلى نهاية العالم.. متنقلة كمترجمة الألسن بين سفارات دول متعددة..
باتت بعد فراقه كزهرة ياسمين جذابة.. لكن ظل الذبول يرافقها على الدوام.. فحتى عند زواجها، ظنت أنها وجدت الرجل المناسب والفارس الكفيل بأن يلبي كل حاجياتها ورغباتها..، فقط لأنه انتبه إليها وإلى رشاقتها الزائدة عن اللزوم.. لدرجة أن صديقاتها المقربات كن نبهنها إلى عواقب استثمارها المفرط في علاقاتها الرومانسية تلك، في الوقت الذي كان الطرف الآخر يتصرف وكأنها مجرد علاقة عابرة.. لليلة واحدة بدون غد أو أفق واضح.. إذ سرعان ما غادر دون سابق إنذار.. لتشعر أنها لن تتجاوز صدمته وفراقه أبدا.. لكن ما فتئت أن عادت إليها ابتسامتها اللطيفة، بعدما تأكدت أنه لم يكن حبا أبدا، بقدر ما كان مجرد رغبة دفينة في أن تكون محبوبة.. هي نفسها لم تدر من أين ورثتها بالتحديد…
سرقتها لذة التفاصيل وهي تستمتع بنكهة البن الرديء داخل المحطة، تماما كما فعلت منذ أزيد من خمس وعشرين سنة خلت داخل المقصف..، في انتظار ساعة انطلاق قطارها إلى وجهته المعلومة..؛ واستسلمت للذة البوح مع ذاتها.. وهي تتأمله ويتأملها.. فتخيلت كيف كان ينصحها..، وهي بين ذراعيه..، كلما ألمَّ بها شك، أو خوف..، بألا تقلق، طالما أنها معه… ولم تدر كيف انفلتت تفاصيل ذلك الخيال نحو لسانها.. لتبوح له وسط الكلام بمدى اشتياقها لهذا اللقاء.. وهي التي لم تنس تفاصيل ما مضى.. ولم تنس كيف كانت.. على الدوام.. في أمس الحاجة إلى الأمان الذي لم تجده في غيره.. لتصير هذه المرأة المدللة التي يراها أمامه.. فهو من كان قد علمها كيف تحب نفسها بالقدر الذي لا تطيق معه الانتظار لتتذوق ما يخبئه لها القدر..
*أستاذ تاريخ*