*حسن إدوعزيز*
وما أن أشرع جريدته، وطواها، ثم وضعها على الطاولة، حتى تحسس قشعريرة غريبة تهزه من الأعماق..، وهو يتابع حركة المارة والمسافرين أمامه، ينشرون لغطا متواصلا رتيبا قبالة زنقة “جنان الشعيبي”.. نظر يمينا ويسارا، فأثاره منظر عجوز كانت تحدق فيه، وترقبه بتمعن غريب.. تساءل في قرارة نفسه عن أية إيماءة حمقاء أو حركة يائسة صدرت منه وهو غارق في التذكر، وجعلت تلك الشمطاء توقف زمن تذكره لتثير انتباهه. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ بمجرد ما أدار رأسه مستدركا..، حتى لمح في عينيها ما يشبه الإشفاق عليه والرعب منه في الآن ذاته..، بل رآها تلمس الأرض بأطراف أصابع يدها اليمنى، ثم ترفعها بتثاقل مثير إلى شفتيها وتبوسها.. فلمح شفتيها وهما تتحركان فيما بعد..: “الله يتبقي الستر”، هذا ما قالته بالتأكيد… فتأبط المسكين جريدته وهرب ليختفي وسط الحشود بين سيارات الأجرة.. ومن يدري، فربما لو بقي في مكانه لحظة واحدة بعد ذلك لاستفحل الأمر… نحو ما لا يتوقعه قلبه الرهيف..
ليست هذه المرة الأولى التي يأخذه فيها مثل هذا المنبه الفجائي.. ليسترجع تفاصيل ماض سحيق تتراءى أمامه على حين غرة، وليصعق بعد هنيهة بأن أمرا هاما قد نسيه.. فكان كلما استفزه هذا الوخز الخفي، يواجهه بالتحايل، فينصب الطقوس الأولية للصيد من فسيح ذاكرته السحيقة، ليفوز بما يستطيع استعادته من لحظات حميمية صعبة التكرار.. كان قد قضاها بين دروب هذه المدينة التي تأبى التطور..، رغم أن عوادي الزمن جعلته ما انفك يزداد نسيانا وجحودا ونكرانا..
ومع مرور الوقت، بات يعرف مقدار اللعبة التي يدبرها شعوره بتواطؤ مع اللاشعور. بل وفي الكثير من المرات، كان يستطيب مثل هذه اللعبة. فقد كان ذلك يبعث فيه عذابا لذيذا ككل نشوة أخرى أو أقل في تجاربه السابقة، كانت مثل هذه الأحداث تطالعه فجأة أو عن سبق إصرار، لتذيقه من المرارة والمتعة، بقدر ما يتولد فيه من طاقة هائلة على النسيان.. وسواء كان مخطئا أو صاحب حق، فهو يعرف أنه هو دون غيره من دفع ثمن القدَر..
وهو بين الحشود هاربا نحو سيارة الأجرة التي ستعيده نحو مدينته الحمراء، أحس بأن عدوى نظرات العجوز الشمطاء قد انتقلت إلى نظرات الحشود.. وكأن الغادين والرائحين أمامه قد أجمعوا على معاينة حكاية طريفة مفادها أن شابا نحيلا كان يشرب قهوته الصباحية مثل بقية خلق الله إلى أن جنًَ في لحظة واحدة.. وبالطبع، فالعجوز، وهي تهمس في آذانهم جميعا، لم تُشر إلى الحمق صراحة، ولكنها سمّته مرضا.. أو مسّا.. أو تهيُّبا أو إشفاقا.. “الله يتبقي الستر”..!