في لقاء برسم الجولة الثالثة من منافسات المجموعة الرابعة ضمن دور مجموعات عصبة الأبطال الإفريقية في كرة القدم جمع بين كل من ناديي الوداد البيضاوي ونظيره المصري الزمالك مساء يوم السبت 26 فبراير 2022، شهد المركب الرياضي محمد الخامس بالدار البيضاء حضورا جماهيريا قياسيا بعد غياب طال لمدة حوالي سنتين، على إثر إغلاق الملاعب الذي فرضه تفشي وباء كورونا. حيث استطاع الفريق المغربي حسم النتيجة لصالحه بثلاثة أهداف لواحد، في أمسية رائعة على مستوى ما قدمه الفريق الأحمر على البساط الأخضر من سمفونية كروية هائلة من جهة، وعلى مستوى الأهازيج التي صدحت بها من جهة ثانية حناجر الجمهور الرياضي الذي عاد أكثر حماسا ليضفي على المدرجات دفئا ظل مفقودا…
وقد كانت أمسية كروية رائعة بامتياز، وزاد من روعتها عودة الجماهير الرياضية بتلك الكثافة المنقطعة النظير والنتيجة المهمة لفائدة الفريق المحلي، الذي كان متأخرا بهدف لصفر منذ الدقيقة الثالثة، ولاسيما عندما أبت الجماهير المتعطشة للفرجة المباشرة إلا أن تردد تلك الأغنية المزلزلة، التي يقول مطلعها “ما رانيش أليز فبلاد الشفارة” أي “لست مرتاحا في بلاد اللصوص”، وهي أغنية تكشف بوضوح حجم معاناة شبابنا، وما وصلوا إليه من وعي تجاه واقع البلاد من حيث التدبير السيء للشأن العام وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كان الجمهور الودادي استغل فرصة حضوره مباراة فريقه في مواجهة نادي الزمالك المصري، للتعبير عما يعتمل في صدور أبناء الشعب من استياء حول ظروف العيش الصعبة وتفشي الفساد والمحسوبية، فإن أحد الفصائل المساندة لفريق الرجاء البيضاوي الغريم التقليدي للوداد البيضاوي كانت سباقة إلى ذلك، حيث اختار فصيل “الكورفا سود” إصدار بلاغ صريح، يعلن من خلاله عن مقاطعة المباراة التي كانت ستجمع فريقهم ب”حوريا كوناكري” الغيني مساء يوم الجمعة 25 فبراير 2022 بالمركب الرياضي محمد الخامس، برسم الجولة الثالثة من دور مجموعات دوري أبطال إفريقيا لكرة القدم، إذ رفض ذلك الفصيل ما شاب قرار فتح الملاعب من ارتجال، وتواصل الزيادات المطردة في الأسعار، التي لم تسلم من لهيبها حتى أسعار تذاكر الدخول إلى المركب الرياضي…
وكذلك كان عليه الأمر في المقابلة التي جمعت بين فريقي الجيش الملكي والدفاع الحسني الجديدي يوم الأحد 27 فبراير 2022 بالمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بالرباط، لحساب الجولة 19 من البطولة الاحترافية، التي عرفت هي الأخرى حضورا جماهيريا كبيرا خاصة من طرف أنصار الفريق المضيف، الذين رغم انتشائهم بالفوز (3/1) لم يتأخروا بدورهم في تمرير رسالتهم مباشرة إلى المسؤولين بترديدهم: “قرار نهار ماغينسيناش الزيادة فالأسعار”.
فمن خلال النماذج الثلاثة المشار إليها أعلاه، وبالرجوع إلى اللوحات الفنية السابقة في السنوات الماضية وخاصة ما يتعلق منها بمجموعة من “الأغاني” التي طالما تغنت بها الجماهير في مدرجات الملاعب وتناقلتها القنوات الرياضية في عدة مناسبات، يتضح جيدا أن ما يجمع بين مختلف الفصائل الرياضية إلى جانب حماسها وتعلقها بفرقها، هو الاستياء العميق من السياسات العمومية الفاشلة والانتقادات الحادة الموجهة للسلطات الحكومية، إلى الحد الذي جعل الكثير من عشاق المستديرة يعزون تأخرها في فتح الملاعب مقارنة مع بلدان أخرى، إلى محاولة تفادي ما يشن عليها من هجومات عنيفة.
ويتأكد لنا أيضا صحة تلك المقولة الشهيرة “الإبداع يولد من رحم المعاناة”، على اعتبار أن معاناة شبابنا هي فعلا ما يدفعهم إلى الخلق والإبداع، ويحركهم في اتجاه نظم أغاني بذلك المستوى المتميز من التعبير الحر والمباشر، الذي يعكس بصدق وعمق مرارة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والوضع البئيس للبلاد والعباد. فالكثير من أولئك المشجعين الذين يرفعون تلك الشعارات ويرددون تلك الأغاني، يجرون خلفهم “جبالا” من الحزن والوجع والإقصاء ويحملون معهم قصصا جد مؤثرة عما يتعرضون له من مختلف أشكال الظلم والميز والتهميش والقهر…
فبعد أن كان التشجيع يقتصر فقط على التصفيقات ولا يتجاوز مجال الفرجة داخل مدرجات الملاعب، أصبح اليوم يأخذ شكلا احتجاجيا أكثر إثارة. حيث تمكنت عديد الفصائل الرياضية من نظم عشرات الأغاني، جاعلة من تلك المدرجات منابر إعلامية لإسماع صوتها والبعث برسائلها النارية لمن يهمهم الأمر من مدبري الشأن العام بالبلاد. إذ أنها وجدت في “قصائدها” الوسيلة الوحيدة، التي يمكن بواسطته التعبير عما يعانيه المواطن من تهميش وإقصاء وظروف عيش قاسية، والمطالبة بضرورة إحداث التغيير الإيجابي نحو الأفضل، ولاسيما في ظل تصاعد موجة الغلاء وتزايد معدلات الفقر والهدر المدرسي والبطالة وانتشار الفساد والريع والرشوة، رافضة استيلاء الأقليات المحظوظة على خيرات الوطن وثرواته، فيما السواد الأعظم من أبناء الشعب يرسفون في قيود الظلم والقهر والحرمان، أو يرتمون في أحضان المخدرات، أو يركبون قوارب الموت بحثا لهم عن لقمة العيش.
إن التدشين لعودة الجماهير الرياضية إلى الملاعب ابتداء من يوم الجمعة 25 فبراير 2022 بتلك البلاغات والأغاني والشعارات، يحمل في طاياته رسائل صريحة وواضحة ليس فقط إلى الأحزاب السياسة التي فقدت إشعاعها ودورها الأساسي في التأطير والترافع على أهم قضايا المواطنين وانشغالاتهم، بل إلى الحكومات المتعاقبة، التي ظلت عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية، وخاصة في النهوض بمنظومتي التعليم والصحة، الحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية، القضاء على مختلف مظاهر الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي والأمية، توفير فرص شغل ملائمة للعاطلين والعلاج والسكن اللائق والعيش الكريم لكافة المواطنات والمواطنين.
اسماعيل الحلوتي