في مقال سابق تحت عنوان “هل انطلق عداد مكافحة الفساد؟” نشر في عدة صحف ورقية وإلكترونية، كنت تحدثت فيه باقتضاب شديد عن استشراء الفساد، وما يخلفه من آثار وخيمة على البلاد والعباد، من حيث تعطيل عجلة الاقتصاد وإهمال الخدمات الاجتماعية وتكريس الهشاشة وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة واتساع دائرة الفوارق الاجتماعية والمجالية. وذلك في سياق ما بتنا نسجله خلال الأيام الأخيرة من تكاثر ملفات جرائم الأموال ومحاكمات هنا وهناك لبعض رؤساء الجماعات والغرف المهنية وغيرهم من الشخصيات البارزة، اعتقادا مني أننا نسير في الاتجاه الصحيح نحو تطويق هذه الآفة الخطيرة والتصدي للمفسدين من منعدمي الضمير الذي يستبيحون المال العام دون وازع أخلاقي.
إذ أن ما يؤسف له حقا هو أنه بمجرد ما تبدأ أصداء فضيحة أو جريمة مالية تتلاشى، حتى تطفو على سطح الأحداث أخرى أكثر خطورة ودويا. كما هو الشأن بالنسبة لما يجري الحديث عنه حول اختلاس وتبذير أزيد من مائتي مليار سنتيم بوزارة الصحة. حيث يتداول مغاربة كثر على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي أشرطة فيديو جد خطيرة تتهم عددا من الأشخاص المتورطين في صفقات عمومية، لاسيما أن المنظمة المغربية لحماية المال العام تتوفر على وثائق ومستندات تؤكد ذلك، مما جعل رئيسها يسارع رفقة عدد من المحامين إلى وضع شكاية لدى النيابة العامة، يطالبون من خلالها إجراء بحث دقيق حول الفضيحة أو ما تراه مناسبا في الكشف عن الحقيقة وتنوير الرأي العام الوطني…
والفساد يعني سوء استخدام أو استعمال المنصب أو السلطة لنيل أو إعطاء ميزة من أجل تحقيق مكسب مادي أو قوة أو نفوذ على حساب الآخرين. وقد عرفته منظمة الشفافية العالمية بأنه “إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب خاص”. وللفساد عدة وجوه منها الفساد الإداري والفساد المالي والفساد السياسي والفساد الأخلاقي، ولا ينحصر فقط في مجتمع بعينه أو دولة بنفسها، بل هو آفة كونية تتضرر منه جميع بلدان العالم بدون استثناء وإن بأشكال متفاوتة، وله مخاطر كبيرة على الأمن الاجتماعي والنمو الاقتصادي والأداء المالي والإداري. وهو ما يجعل منه معضلة خطيرة لم تفتأ تحظى باهتمام واسع لدى كافة المجتمعات والدول، وتكاد الاحتجاجات لا تتوقف عن التنديد بالفضائح المتوالية، والمطالبة بإسقاط الفساد والتعامل مع المفسدين كبارا وصغارا بما يلزم من الحزم والصرامة؟
وبالعودة إلى فضيحة وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، يشار إلى أنه سبق أن أثير جدل كبير حول طريقة تدبير صفقات تقدر بملايير السنتيمات، مما أدى إلى إحداث أزمة خانقة داخل الوزارة الوصية. وكان آخر تلك الصفقات صفقة اقتناء أجهزة الكشف السريع عن فيروس كورونا المستجد، وهي صفقة فاقت قيمتها 20 مليار سنتيم، مما عجل لحظتها بتشكيل لجنة برلمانية ورفع ملتمس بعقد اجتماع طارئ مع خالد آيت الطالب، لتقديم توضيحات بخصوص طبيعة الصفقات التي أبرمتها وزارته في ظل تفشي جائحة “كوفيد -19” دون احترام قواعد مرسوم الصفقات العمومية. كما طالبت عدة جمعيات ومنظمات حقوقية بفتح تحقيق نزيه، وتحديد الإجراءات التي يمكن اتخاذها في حالة ثبوت ما يؤكد حدوث اختلاس وتبذير المال العام، من أجل تفعيل آليات المحاسبة ضد كل الخروقات المسجلة، حرصا على حماية أموال الشعب…
فالمعطيات المتوفرة والمعروضة على أنظار المغاربة عبر مختلف وسائل الإعلام تفيد أنه فضلا عن خلاصات تقرير اللجنة البرلمانية الاستطلاعية، دخلت على الخط المنظمة المغربية لحماية المال العالم التي ظلت تشتغل طوال سنة كاملة على هذا الملف الحارق، وبناء على ما توصلت إليه من حقائق صادمة تقدمت بشكاية إلى النيابة العامة يوم الجمعة 3 دجنبر 2021 مدعمة بعدد وافر من الوثائق والمستندات والشهادات والسجلات التجارية ودفاتر التحملات والعقود والعينات، تتهم فيها بالإسم 20 مسؤولا بوزارة الصحة وأزيد من 60 شركة، باختلاس وتبذير أموال عمومية والتزوير واستغلال النفوذ والغدر والرشوة وغسيل الأموال، مطالبة بضرورة إجراء بحث قضائي عاجل في شأن الأفعال المنسوبة إلى المتهمين، خاصة أن بحوزتها تقرير من إنجاز المفتشية العامة لوزارة المالية تحت رقم 6457 في دجنبر 2020، وتقارير أخرى منها ما يتعلق بتجاوزات مديرية الأدوية والصيدلة ومنها تلك الصادرة عن إدارة الجمارك ومختبرات علمية تهم صفقات تفاوضية، استفادت منها قرابة مائة شركة منذ تفشي جائحة “كوفيد -19” بلغت قيمتها الإجمالية أزيد من مائتي مليار سنتيم، مما كون لدى المنظمة قناعة راسخة بتورط مسؤولين كبار في وزارة الصحة ومن بينهم الوزير السابق والحالي خالد آيت الطالب نفسه…
من هنا ودون الدخول في مزيد من التفاصيل مادام الملف/القنبلة بين يدي النيابة العامة، فإنه بات لزاما من جهة أولى على القضاء أن يضع نصب عينيه المصلحة العليا للوطن ويقول كلمته بكل جرأة ومسؤولية، ومن جهة ثانية على حكومة أخنوش التي تضع مكافحة الفساد أولوية وطنية في برنامجها الحكومي، أن تولي مثل هذه الملفات التي تدمر الاقتصاد الوطني الكثير من الاهتمام، التصدي بإرادة قوية لكل من تسول لهم أنفسهم من المفسدين الترامي على المال العام والعبث بمصالح المواطنين، وعدم التستر عن المتورطين مهما علا شأنهم، والسهر الجاد على تفعيل أدوار مؤسسات الرقابة وتخليق الحياة ونشر قيم النزاهة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
اسماعيل الحلوتي