مرة أخرى يبرهن الشعب المغربي الأبي على حضوره القوي في سائر الاستحقاقات الوطنية، وجاهزيته لخوض مختلف المعارك بنفس الهمة والحماس المعهودين، استجابة لنداء الضمير والوطن، ويكشف عن مدى قدرته على التعبير الحر عن إرادته في قول كلمته الفصل التي من شأنها إحداث التغيير المأمول.
إذ سيظل يوم الأربعاء 8 شتنبر 2021 منقوشا في الذاكرة، لما يشكله من حدث بارز يؤرخ لعرس ديمقراطي متميز، بعد أن حقق المغرب فيه مجموعة من الانتصارات على عدة مستويات، حيث أنه وفي ظل تفشي جائحة “كوفيد -19” وما يعرفه المحيط الإقليمي من اضطرابات، أبى إلا أن يرفع التحدي بتنظيم انتخابات غير مسبوقة لاختيار أعضاء مجلس النواب ومجالس الجماعات والجهات في يوم واحد، محترما بذلك مقتضيات الدستور وملتزما في ذات الوقت بالقيود التي فرضتها الجائحة.
وخلافا لما كان ينتظره البعض من أعداء نجاحات المغرب وخصوم وحدته الترابية من عزوف انتخابي، فإن نسبة المشاركة في هذا الاستحقاق الوطني بلغت 50,35 في المائة عند انتهاء عملية التصويت في تمام الساعة السابعة مساء على الصعيد الوطني، وتراوحت ما بين 58 و66 في المائة بالأقاليم الجنوبية، وفق ما أعلنت عنه وزارة الداخلية في بيان لها. وهي نسبة حتى وإن لم ترق إلى ما كنا نطمح إليه، تظل مرتفعة مقارنة مع سابقتها في انتخابات 2016، وتؤكد على وعي المغاربة بالإشكالات المطروحة ورغبتهم الجامحة في التغيير الإيجابي، وإلا ما كانوا ليذهبوا بعيدا في معاقبة حزب العدالة والتنمية، الذي ظل جاثما على صدورهم طيلة عشر سنوات، حيث عرف سقوطا مدويا بحصوله على 12 مقعدا فقط واحتلاله الرتبة الثامنة والأخيرة، بعد أن كان يحتل المرتبة الأولى ب125 مقعدا في الولاية السابقة.
ترى ما هي الأسباب الكامنة خلف هذه الهزيمة الكبرى لحزب ذي مرجعية إسلامية وله كتلة ناخبة ثابتة؟ فبخلاف ما عبر عنه عدد من الأمناء العامين للأحزاب السياسية من كون الانتخابات نزيهة ومرت في ظروف جد عادية، رفض سعد الدين العثماني الإدلاء برأيه حول النتائج المعلنة إلى حين تسلم جميع محاضر مكاتب التصويت، مدعيا أن ممثلي الحزب لم يتسلموها في حينه. وعلى إثر النتائج الصادمة سارع بعض قياديي الحزب البارزين وضمنهم صاحب المعاش الاستثنائي الخرافي عبد الإله ابن كيران الأمين العام السابق للحزب ورئيس الحكومة السابق، الذين ساهموا بشكل أو آخر في هذا السقوط المدوي من خلال تدبيرهم السيء وفضائحهم وخرجاتهم الاستفزازية، إلى مطالبته بالاعتراف الفوري بالهزيمة النكراء وتقديم استقالته من الأمانة العامة…
وكان من مخلفات هذه الضربة الموجعة أن جاء رد الفعل سريعا، وأنه تفاديا للمزيد من الانتقادات اللاذعة، عاد سعد الدين العثماني لاستدعاء أعضاء الأمانة العامة للحزب، حيث تم عقد اجتماع استثنائي طارئ يوم الخميس 9 شتنبر 2021، تقرر على إثره إلى جانب الدعوة للتعجيل بعقد مؤتمر وطني استثنائي، تقديم جميع أعضائها استقالتهم، على أن تستمر في تدبير شؤون الحزب إلى حين انعقاد دورة استثنائية للمجلس الوطني للحزب حدد له يوم السبت 18 شتنبر 2021، من أجل تقييم شامل للاستحقاقات الانتخابية واتخاذ القرارات المناسبة. والأغرب من ذلك أن قيادات الحزب رغم ما تلقته من هزة عنيفة لن تسمح لها حتى بتكوين فريق نيابي بمجلس النواب، مازالت تعيش الوهم وتعتبر أن النتائج المعلن عنها “غير مفهومة وغير منطقية” و”لا تعكس حقيقة الخريطة السياسية ولا موقع الحزب ومكانته في المشهد السياسي وحصيلته في تدبير الشأن العام المحلي والحكومي”
نحن لا نعتقد أن هناك سببا لهذه الهزة العنيفة التي لم يكن حتى أكبر المتشائمين بالحزب يتكهن بها، عدا أن “البيجيديين” لم يكونوا في مستوى تطلعات الجماهير الشعبية وتلبية انتظاراتها، مما جعلها تشعر بالخيبة والخذلان، لاسيما أن الحزب أخل بتعهداته ووعوده في محاربة الفساد، تخليق الحياة العامة، تحسين ظروف عيش المواطنات والمواطنين، تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، الحد من معدلات الفقر والأمية والبطالة والفوارق المجالية، وإصلاح منظومتي التعليم والصحة والقضاء. فضلا عما اتخذه من قرارات جائرة، ساهمت في الرفع من منسوب الاحتقان الاجتماعي وتنامي الاحتجاجات الشعبية، سواء في حكومة ابن كيران أو حكومة العثماني، حيث تم الإجهاز على أهم المكتسبات الاجتماعية من إضراب وتقاعد وتشغيل في الوظيفة العمومية، الذي تم تعويضه بنظام التعاقد المشؤوم.
فالاندحار المذل لحزب العدالة والتنمية الذي اعتاد خلال الولايتين السابقتين على احتلال المرتبة الأولى وعدم النزول عن سقف مائة مقعد في مجلس النواب، ليس سوى فاتورة سوء تدبيره للشأن العام وعجزه عن الوفاء بالتزاماته وتحقيق مكاسب مادية لأبناء الشعب المغربي، إذ في عهده تزايد عدد الفقراء والمعوزين، تضاعف معدل البطالة وخاصة في صفوف حملة الشهادات العليا وارتفعت نسبة الهدر المدرسي والمديونية الخارجية، ازدادت أسعار المواد الواسعة الاستهلاك استعارا، والخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة تدهورا والفساد تفشيا، ناهيكم عن الفضائح الأخلاقية في صفوف قياداته داخل المغرب وخارجه…
الآن وقد قال الشعب كلمته وأعطى المغرب مثالا متميزا في تنظيم الانتخابات واحترام الديمقراطية، مما سيعزز مكتسباته ومكانته في الأوساط الدولية وخاصة بالنسبة لأوروبا. فإنه يتعين على مكونات الحكومة المقبلة أن تستخلص العبرة من هزيمة البيجيدي، وتنخرط بحماس كبير وانسجام دائم في الإصلاحات الكبرى، وأن تحرص على تنزيل الدقيق للنموذج التنموي الجديد، باعتباره ورشا ملكيا يهدف إلى النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإسهام في مزيد من الرخاء للمواطنين.
اسماعيل الحلوتي