ما من توصيف يليق بحالنا الباعث على الشفقة، جراء ما بتنا نعيش على إيقاعه اليوم من انتهازية وميوعة سياسية وانعدام الضمير والأخلاق لدى الكثيرين، عدا ذلك المثل العامي القائل: “عشنا وشفنا، وما عاد شي يدهشنا”. إذ قبل حتى أن تهدأ الزوبعة التي أثارتها تصريحات عبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب، خلال ندوة صحفية أقيمت عن بعد يوم الثلاثاء 22 يونيو 2021، الذي أبى إلا أن ينعت فيها الأحزاب السياسية ب”الزعتر والباكور”، محملا إياها مسؤولية فقدان المغاربة الثقة في النخب السياسية والمسؤولين، جراء ما أصبح عليه أداؤها ومردوديتها من ضعف، وعجزها البين عن ترجمة وعودها الانتخابية إلى حقائق ملموسة على أرض الواقع.
فإذا بخبر آخر يطفو على سطح الأحداث، وكأننا به جاء فقط لتأكيد ما ذهب إليه الجواهري من انتقادات لاذعة للنخب السياسية. وهو الخبر الذي يقول بمغادرة حميد شباط الأمين العام السابق لأعرق حزب في المغرب، القلعة الاستقلالية وحطه الرحال بحزب الحركة الشعبية ذي رمز السنبلة، الذي يتربع على كرسي أمانته العامة امحند العنصر منذ حوالي 35 سنة، عاقدا العزم على إسقاط القيادي بحزب العدالة والتنمية والوزير السابق ادريس الأزمي الإدريسي من كرسي عمودية فاس.
وذلك مباشرة بعد أن حلت اللجنة التنفيذية للحزب جميع فروعه بمدينة فاس التي تعد عاصمته التاريخية، متوخية من قرارها تفويت الفرصة على شباط في الترشح للانتخابات المزمع إجراؤها في غضون ثلاثة أشهر من الآن، وتحقيق حلمه المتمثل في استرجاع منصب عمودية المدينة الضائع منه. وهو ما جعله يرفضه بشدة ويصفه بالعبث، لما سيكون له من آثار على نتائج الانتخابات، متهما الأمين العام نزار بركة باستعمال الشطط في قيادة الحزب نزولا عند رغبة بعض الشخصيات المتنفذة بداخله. وبعد إخفاقه أيضا في انتزاع تزكية الترشح باسم حزب “الوحدة والديمقراطية” ذي رمز “الصنبور” المنشق عن حزب الاستقلال، الذي ظل غائبا عن الساحة السياسية طوال الفترة الماضية، ليعود في الأيام الأخيرة إلى تجديد هياكله استعدادا للمشاركة في استحقاقات 8 شتنبر 2021.
وجدير بالذكر أن شباط كان في مرحلة سابقة “أشهر من نار على علم”، لما اشتهر به من دهاء وخطاب شعبوي سمج، حيث أنه طالما وجه ضربات قاضية لخصومه داخل الحزب وخارجه، مستعملا في ذلك كل الأساليب الدنيئة والوسائل الممكنة وغير الممكنة، ونخص بالذكر هنا على سبيل المثال إطاحته برئيس “الاتحاد العام للشغالين بالمغرب” الذراع النقابي للحزب الراحل عبد الرزاق أفيلال واستخلافه بالأندلسي بنجلون، الذي لم يتأخر في إزاحته هو الآخر ويستولي على رئاسة النقابة، ثم الانقضاض على الأمانة العامة للحزب، بعد هزم منافسه ابن الزعيم علال الفاسي: عبد الواحد الفاسي. ناهيكم عن المعارك الكلامية التي ظل يخوضها مع رئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية عبد الإله ابن كيران، قبل أن يعود للتقرب منه بعد فوز حزبه في تشريعيات عام 2016، وتكليفه من قبل ملك البلاد بتشكيل حكومته الثانية، دون أن يتحقق له ذلك ويتم إعفاؤه، على خلفية ما سمي آنذاك ب”البلوكاج الحكومي”، الذي دام حوالي ستة شهور.
فطلاق شباط من حزب الميزان ورحيله الاضطراري إلى حزب السنبلة، يجعلنا نستحضر واقعة نجيب الوزاني الأمين العام السابق لحزب “العهد الديمقراطي”، الذي ترشح باسم حزب العدالة والتنمية في انتخابات أكتوبر 2016، طمعا في الوصول إلى قبة البرلمان، لكنه مني بهزيمة نكراء في دائرة الحسيمة، دفعته إلى التواري عن الأنظار واعتزال الحياة السياسية. وإذا كان التهافت على حجز تذكرة ولوج البرلمان يوحدهما، فهناك فروق أخرى تبعد بينهما، منها أن “ترحال” الأول أملته استحالة “العشرة الحزبية”، فيما “ترحال” الثاني تم بمحض إرادة صاحبه وهو على رأس الأمانة العامة لحزبه.
إضافة إلى أن “عمدة فاس” السابق، وبعد أن خاب ظنه في دخول حزبه حكومة ابن كيران الثانية التي لم تتشكل، وبمجرد ما بلغ إلى علمه استعداد القضاء والنيابة العامة لخوض معركة “مقدسة” ضد الفساد والمفسدين، بإخراج الملفات المتعلقة بسوء التدبير الذي عرفته بعض المدن والمجالس الجماعية والجماعات الترابية والإدارات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، وشروع المحاكم المغربية في البت في قضايا عدد من المنتخبين والمسؤولين المتهمين بهدر المال العام والاختلاسات واستغلال النفوذ وخرق القانون… حتى سارع إلى حزم حقائبه وفر هاربا إلى منفاه الاختياري، لاسيما أن ملفه كان ضمن الملفات الحاضرة في سياق الحملة “التطهيرية”، التي فضل جل أصحابها الابتعاد عن المشهد السياسي والبحث لأنفسهم عن ملاذات آمنة إلى حين مرور العاصفة، حيث اختار الاستقرار بين ألمانيا وتركيا، دون أن يتم حرمانه من تعويضات مجلس النواب طيلة العامين اللذين قضاهما خارج المغرب.
أفبعد كل هذا الذي يجري داخل الأحزاب السياسية من غياب الديمقراطية، محسوبية، تصفية الحسابات، استقطاب الأعيان ومحترفي الانتخابات وتهافت على التزكيات كلما قرب موسم الانتخابات، مازال هناك من يتباكى وينبري للدفاع عنها رافضا انتقادها على ضعف أدائها وانزياحها عن دورها التأطيري؟ أليس من الخزي والعار التطبيع مع الفساد، وتحويل العمل السياسي إلى مجرد سلم للارتقاء والاغتناء؟ ثم كيف للفصل 61 من الدستور أن يقف عاجزا عن التصدي لظاهرة الترحال السياسي، التي ازدادت استفحالا خلال العقد الأخير، علما أنها تضرب مصداقية الأحزاب وتساهم في الرفع من نسبة العزوف السياسي والانتخابي وتعطيل الانتقال الديمقراطي؟
اسماعيل الحلوتي