عبد الرزاق القاروني*
جاك ماجوريل فنان فرنسي مغامر، لقب تارة برسام المغرب والقصبات، وتارة أخرى برسام مراكش والجنوب المغربي، من طينة الفنانين الكبار في مجال الفن الاستشراقي، عاش يبحث عن عوالم غرائبية تعج بالضوء والألوان الزاهية، وقد خلف إرثا فنيا غزيرا، لكن اشتهر كثيرا بحديقته العجيبة والبهيجة، التي تعد لوحة إيكولوجية، ومن المعالم السياحية لمدينة مراكش.
مسار فني استثنائي
ولد ماجوريل يوم 07 مارس 1886 بمدينة نانسي بشرق فرنسا، في وسط فني. فأبوه لويس ماجوريل كان صانع تحف خشبية، وجده أوغوست فنان ديكور على الخزف والأثاث. درس الفن في منحاه المتعلق بالهندسة الداخلية، سنة 1901، بمدرسة الفنون الجميلة لنانسي، ليقوم سنة 1903 بدراسة الرسم بأكاديمية جوليان بباريس بمرسم الفنانين شومير وروايي.
وخلال سنة 1908، نظم معرضه الأول بجمعية الفنانين الفرنسيين بذات المدينة، وفي سنة 1910، رحل إلى مصر، حيث مكث أربع سنوات، منجذبا بثقافة الشرق والعالم الإسلامي. وبعد تدهور صحته، جراء إصابته بداء السل، وبدعوة كريمة من صديق أبيه وإبن مدينته الماريشال ليوطي، أول مقيم عام للحماية الفرنسية بالمغرب، حل سنة 1917 بمراكش، حيث استقر، فترة وجيزة، بفندق فيكتوريا، ثم، لمدة سنتين، بمنزل قرب مسجد حي بن صالح، غير بعيد عن ساحة جامع الفنا، ثم بقصر الباشا بن داود بحي باب دكالة، الذي استأجره خلال الفترة الممتدة ما بين 1919 و1923.
وفي سنة 1918، عرض أعماله الأولى عن المغرب برواق فندق إكسيلسيور بالدار البيضاء. وخلال سنة 1921، قام برحلة فنية واستكشافية إلى جبال الأطلس الكبير، خصوصا وديان تلوات وأونيلا وبلاد كلاوة. وأثناء السنة الموالية، عرض أعماله الفنية حول جبال الأطلس برواق جورج بوتي بباريس التي لاقت نجاحا كبيرا، واقتنى منها الماريشال ليوطي ثلاث لوحات لتزيين مقر الإقامة العامة بالرباط. كما أصدر كتابا حول جبال الأطلس يحمل عنوان “دفتر الطريق لفنان بالأطلس والأطلس الصغير”، سنة 1922، بمساعدة أبيه، لدى ناشر من مدينة نانسي يدعى فيكتور بيرجي، ويتضمن هذا المؤلف ارتسامات ماجوريل حول الأحداث والوقائع التي عاشها أثناء رحلته إلى هذه المنطقة.
ومن أجل الاستقرار والتفرغ كليا للفن، اقتنى سنة 1923 من الشركة المغربية، التي تنشط في مجالات التجارة والصناعة والفلاحة، أرضا بالرويضات على مقربة من باب دكالة، تبلغ مساحتها ما يناهز هكتار ونصف، وتسمى “بوصفصاف”، وذلك نسبة لأشجار الحور (الصفصاف) التي تنمو فيها، والتي تذكره بفترة طفولته الجميلة التي قضاها بمحاذاة سواقي منطقة اللورين الفرنسية، وفي هذا المكان شيد فيلا، وفق أساليب الهندسة الأندلسية المغربية. كما قام بتزيين رواق ومطعم فندق المامونية بمراكش بأعمال ديكور، مع إنجاز ملصقات سياحية تسوق المغرب كوجهة سياحية واعدة، إبان الحماية الفرنسية.
وخلال سنة 1926، واصل استكشاف جبال الأطلس، عبر تنظيم رحلات إلى مدن الصويرة وأكادير، إضافة إلى تارودانت بجنوب المغرب، دون أن ينسى، سنة 1928، أن يتوجه شمالا لمدينة مولاي إدريس زرهون، المعلمة المفعمة بالأصالة والروحانية، ورمز أول دولة إسلامية بالمغرب.
ولتوسعة مقر سكناه وتمكينه من فضاء أخضر، اقتنى سنة 1928 بقعتين أرضيتين مجاورتين لمسكنه، خصصهما لإحداث حديقته الفنية، وأخذ منحى آخر في رسوماته، يتميز باستعمال تقنية الرسم بالألوان المائية الممزوجة بمسحوق الذهب أو الفضة، التي تعلمها من جده، فنان الأثاث والأواني الفخارية. وفي سنة 1931، شيد فيلته التكعيبية، التي جعل منها مرسمه الخاص، ورواقا لعرض لوحاته للعموم، مستعينا في ذلك بالخدمات المتميزة للمهندس بول سينوار.
ومن أجل تزيين مقر بلدية الدار البيضاء، رسم، سنة 1938، لوحتين كبيرتين، لفائدة إدارة الحماية الفرنسية بالمغرب، الأولى تجسد أحواش أنميتر بإقليم ورزازات والثانية عبارة عن موسم بمراكش. وخلال الفترة الممتدة ما بين 1945 و1952، قام بثلاث رحلات إلى إفريقيا جنوب الصحراء، زار أثناءها بلدان غينيا وساحل العاج والنيجر والسينغال، إضافة إلى السودان. وسنة 1946، وبتشجيع من صديقه رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، عرض لوحاته بلندن.
وفي سنة 1955، تعرض لحادثة سير خطيرة فقد على إثرها رجله اليسرى. وأثناء سنة 1957، طلق زوجته أندري لونكفيل، ما جعله يتخلى لها عن جزء من حديقته، ليتزوج، سنة 1961، من ماري تيريز هامان من أصول هايتية. وخلال سنة 1962، تعرض لحادثة سير ثانية أدت إلى كسر في فخذه، ما أدى إلى نقله، على وجه السرعة، إلى باريس من أجل العلاج، لكن ما فتئ أن توفي، يوم 14 أكتوبر من ذات السنة، ليدفن بجوار قبر أبيه بمقبرة بريفي بنانسي.
وبعد وفاته، نظمت عدة معارض لأعماله الفنية بمراكش والدار البيضاء، علاوة على باريس. لقد كان ماجوريل فنانا غزير الإنتاج، حيث خلف ما يزيد عن ألف لوحة فنية هي عبارة عن بورتريهات ومشاهد يومية ومناظر طبيعية لمجموعة من البلدان من قارتي أوروبا وإفريقيا، مع اهتمام كبير بمراكش والجنوب المغربي.
ماجوريل من رواد الفن الاستشراقي
يعد ماجوريل من الوجوه البارزة للفن الاستشراقي في القرن العشرين، فمن أجل الاستشفاء، وبحثا عن عوالم حارة وجافة، هجر دفء العائلة وحياته الوثيرة بنانسي، لاستكشاف أضواء ومباهج الحياة الشرقية بمصر، التي ما لبث أن غادرها للاستقرار بالمغرب، الذي سحره بسكانه ومعالمه التاريخية ومشاهده اليومية، إضافة إلى مناظره الطبيعية. لقد رسم عدة أماكن بهذا البلد، لكن خلف لوحات كثيرة عن قصبات جبال الأطلس، حتى أنه لقب برسام القصبات والجنوب المغربي، وقد خص هذه القصبات بألبوم موسوم بـ “قصبات الأطلس”، صادر عن منشورات جول مينيال بباريس سنة 1930، بتقديم للماريشال ليوطي.
ومن أبرز اللوحات، في هذا المجال، نذكر لوحة “قصبة مراكش الحمراء” (الفريجة)، التي رسمها هذا الفنان سنة 1924، والتي لها قيمة فنية وتاريخية كبيرة، إذ تم اختيارها سنة 1926 لتزيين غلاف الدليل السياحي لمراكش، ما أهلها لأن تصبح أيقونة ورمزا في المخيال الثقافي والفني المغربي.
وقد قامت أسرة الفنان ببيع هذه اللوحة التحفة، سنة 2011، عن طريق المزاد العلني برواق أركوريال بباريس بسعر قياسي، يربو عن مليون أورو لأحد هواة اقتناء اللوحات الأمريكيين. وبهذه المناسبة، أكد فرنسوا تاجان، مفوض المبيعات الفرنسي، أنه “لم يسبق لأي لوحة من لوحات ماجوريل أن حققت هذا السعر”، مضيفا أن عرض هذه اللوحة للبيع قد شكل عنصر تحفيز لسوق الفن، حيث حظيت باهتمام كبير لدى هواة اقتناء اللوحات، عبر مختلف دول العالم.
وحول هذه اللوحة، يقول فليكس مارسيلاك، المتخصص في فن ماجوريل: “في هذا العمل الفني الكبير، ومن خلال لعبة بسيطة من المساحات الصغيرة للألوان الموضوعة، بطريقة مسطحة وفسيفيسائية، استطاع ماجوريل، بمهارة، أن ينقل كامل موضوعه”.
أزرق ماجوريل بصمة فنية خالدة
ولإعطاء مسكنه نوعا من الفرادة والتميز، قام ماجوريل، سنة 1937، بصباغته بألوان حيوية يطغى عليها لون أزرق مشرق وناصع، لون لازوردي يمتح من معين لوحة الألوان لما وراء البحار، أطلق عليه اسم أزرق ما جوريل، ومستوحى، كما صرح بذلك ذات مرة، من لون مياه بحيرة تاسكا بجبال الأطلس. وهذا اللون له تركيبة لونية خاصة تشبه ظل الأزرق الأرجواني، وتتكون من ثلاثة ألون هي الأزرق والأخضر، علاوة على الأحمر.
وفي جولة متأنية بهذه الحديقة البديعة، نلاحظ الحضور القوي والشامخ لهذا اللون الأزرق في عدة أماكن ومناحي، من أبرزها: الأبواب والنوافذ والشرفات والحيطان والنافورات وأحواض الماء، إضافة إلى المزهريات، ما يخلق سيمفونية بصرية رائعة، خصوصا عندما يتواجد مع ألوان أخرى ليست أقل رونقا وبهاء، مثل الأصفر والبرتقالي، إضافة إلى الأخضر.
وخلال العقود الأخيرة، غادر هذا اللون أسوار حديقة ماجوريل، وأصبح لونا عالميا، وماركة مسجلة في مجال الصباغة، تتهافت كبريات الشركات على استعماله، في هذا المجال، وفي ميادين أخرى، تتعلق بالموضة والحلي ومستحضرات التجميل، كما غدا هذا اللون من الألوان المفضلة لصباغة نوافذ وأبواب العديد من المنازل بمراكش، لأنه يبهر العين، ويبعث على الاسترخاء والسكينة في النفوس.
حديقة ماجوريل تحفة إيكولوجية
تعد حديقة ماجوريل من أشهر الحدائق في العالم. حديقة فريدة وزاهية، فتحها ماجوريل للزوار، سنة 1947، وحرص على جعلها، على مدى أربعين سنة، لوحة إيكولوجية تعج بمختلف الأشجار والنباتات النادرة، التي جلبها من مختلف بقاع المعمور. إنها جنة فيحاء محاطة بأسوار في قلب مراكش، وهي بذلك تبدو مثل فضاء إيكولوجي أسطوري، خارج الزمن، اجتمع فيها ما تفرق في غيرها، على المستوى النباتي، ما حذا بماجوريل إلى اعتبارها من أجمل الأعمال التي أنجزها في مساره الإبداعي. وفي هذا الإطار يقول هذا الفنان: “هذه الحديقة مهمة صعبة، أتفرغ إليها كليا، تأخذ مني سنواتي الأخيرة، وتجعلني أسقط متعبا تحت أغصانها، بعد منحها كل حبي”.
وخلال سنة 1980، وبعد أن أصبحت هذه الحديقة مهملة وعرضة للمضاربات العقارية، التي تروم تحويلها إلى مركب فندقي، سارع إلى اقتنائها مصمم الأزياء العالمي إيف سان لوران، رفقة شريكه راعي الفن ورجل الأعمال بيير بيرجي، حيث قاما بصيانة وترميم مسكن ماجوريل بمساعدة صديقهما مصمم الديكور بيل ويليس، ليتم بها إحداث متحف إسلامي، أصبح فيما بعد متحفا بربريا، يضم مجموعة من القطع والتحف الفنية التي جلبها سان لوران وبيرجي من عدة بلدان من مختلف بقاع العالم.
وفي سنة 1998، تم تأهيل الحديقة، من خلال تزويدها بنظام سقي آلي، وجرد رصيدها النباتي، وإغنائها بفصائل جديدة من المغروسات والنباتات. وبعد ثلاث سنوات من ذلك، أحدث سان لوران وبيرجي جمعية حديقة ماجوريل للحفاظ على الإرث الإيكولوجي والتاريخي والثقافي لهذا الفضاء. وإثر وفاة سان لوران، سنة 2008، احتضنت ورود هذه الحديقة رماده، ونصب تذكاري يخلد ذكراه، لأنه كان يعشق هذا الفضاء، ويعتبره “مصدر إلهام لا ينضب”، بالنسبة لإبداعاته في عالم الأناقة وتصميم الأزياء الراقية. ومع سنة 2011، أصبحت حديقة ماجوريل مؤسسة ذات منفعة عامة، تدعم عدة مشاريع ثقافية وتربوية وطنية، وبذلك، خلدت ذكرى هذا الفنان، وساهمت، بشكل كبير، في إشعاعه بعد مماته.
مارسيلاك لمعرفة حياة وأعمال ماجوريل
فليكس مارسيلاك مؤرخ فني فرنسي، وعاشق هو الآخر لمدينة مراكش، صاحب رواق مارسيلاك بباريس، الذي يعتبر أعرق مؤسسة فنية بعاصمة الأنوار تهتم بعرض فنون الديكور للقرن العشرين. له كتابات رصينة ومرجعية حول هذا الفنان، من أبرزها: كتاب يحمل عنوان “جاك ماجوريل”، صادر ضمن سلسلة المستشرقين عن منشورات “أسي إير” بفرنسا سنة 1995، والذي تطرق فيه لجملة من القضايا والمحطات المفصلية في حياة وأعمال ماجوريل، بدءا بالمحيط الفني بنانسي، وفترة الإقامة بمصر، والسنوات الأولى والاستقرار بالمغرب، ومرورا بنماذج من المعارض المنظمة، من طرف ماجوريل بفرنسا، ودفتر طريق هذا الفنان حول زياراته الاستكشافية للأطلسين الكبير والصغير، وانتهاء برحلاته إلى إفريقيا السوداء، والسنوات الأخيرة من حياته المفعمة بالإبداع.
ويعتبر مارسيلاك هذا الفنان رسام المغرب بامتياز، موضحا أن فنه مرتبط، بشكل كبير، باكتشافه للمغرب، الذي مارس عليه سطوته الساحرة، ومبرزا أن هذا الفنان، بدل أن يرسم لوحات غريبة وطريفة، ركز جهوده، بشكل أساسي، على إنجاز عمل نابع من الواقع، يعطي نظرة أصيلة ودافئة، تظهر الساكنة والمناظر الخلابة أو مشاهد من الحياة اليومية، ومضيفا أن أعماله الفنية تعتبر إشادة عالية وتقدير عميق للمغرب.
لقد رحل ماجوريل بعد حياة زاخرة بالإبداع، تاركا وراءه إرثا فنيا غنيا ومتنوعا خلد، من خلاله عدة مناطق من العالم بمعالمها التاريخية، ومشاهدها اليومية، إضافة إلى مناظرها الطبيعية، لكن تبقى حديقته بقلب مراكش أجمل لوحة حية شاهدة على عبقريته في مجال الفن وتصميم الحدائق.
*عبد الرزاق القاروني، باحث وصحفي مغربي