بقلم : ياسين عدنان
لستُ مختصًّا في الشأن الرياضي، لكنني كعموم المغاربة عاشقٌ للمستديرة شغوفٌ بأخبارها. ولأنّ الشغف أصلٌ في الرياضة، فقد وجدتُني بعد أفول الكوكب المراكشي، أصْطفي الرّجاء البيضاوي فريقًا أوّلَ أتابع أخباره وأفرح لانتصاراته. والحقيقة أنني اخترت الرجاء ليس بسبب ألقابه وإنجازاته، أو قيمة لاعبيه فحسب، وإنّما بسبب جمهوره أساسًا. هذا الجمهور الأسطوري الذي يتضامن مع فلسطين في زمنٍ مَشومٍ تراجعت فيه المشاعر القومية، ويبدع أهازيج تتضامن مع الفئات المقهورة والمهمشة من الشعب المغربي، أهازيج بديعة لم يجد الأساتذة والأطباء غضاضةً في ترديدها خلال مظاهراتهم. هذا الجمهور الأصيل الذي يغادر الملعب رأسًا باتجاه مسكن شابٍّ بسيطٍ مُصابٍ بداء السرطان فتتجمّع جحافله أسفل شرفة شقة الفتى المريض لتصدح بأهازيج الرجاء في مشهد مؤثر يحبس الأنفاس. هذا جمهورٌ لا نظير له في كلّ العالم العربي. لهذا تحديدًا عشقت الرجاء. بسبب هذا الجمهور الفاتن أوّلًا وقبل كلّ شيء. لذلك أكتب اليوم دفاعًا عن هذا الجمهور الذي أخشى ما أخشاه أن يكون هناك من يتلاعبُ به من وراء ستار في سياقات مبهمة. ونحن نعرف سهولة التلاعب بالحشود. وإلّا، ما معنى أن تغضّ السلطات الطرف عن احتشاد أنصار الرجاء بالآلاف أمام مركّب الوازيس دون أن تتدخّل قوات الأمن لتفريقهم، فيما نرى كيف يُرفع شعار ضرورة احترام مقتضيات حالة الطوارئ الصحية في وجه تنسيقيات الأساتذة والمتظاهرين لأسباب حقوقية أمام البرلمان، وكيف يتمّ تفريق تجمّعاتهم بصرامة وعنف؟ إنني عاشق لجمهور الرجاء أكثر من عشقي للنادي الأخضر فريقًا ولاعبين. ولهذا أفضّل ممارسة عشقي لهذا الجمهور بِمُصارحته عوض مُسايرته، لأعرب عن رأيي بوضوح في موضوع يشغل كل عشاق الرّجاء داخل الوطن وخارجه.
إذ ليس من اللائق برأيي أن يضغط جمهور الخضراء على إدارة فريقه لفكِّ الارتباط مع جمال السّلّامي. أوّلًا لأنّ الظرف المادي للفريق لا يحتمل هكذا مجازفة. ثم لأنّ ما قدّم السّلّامي للرّجاء مذ تسلّم إدارته التقنية يستحق الاعتبار. يكفي أنّ الرجل قاد الفريق إلى الفوز بالبطولة الوطنية العام الماضي بعد سبع سنوات عجاف. وإذا كان الفريق قد أقصي العام الماضي في نصف نهائي دوري أبطال إفريقيا أمام الزمالك، فبسبب كورونا التي ضربت الفريق الأخضر بقوة فأسقطت أبرز نجومه. ومع ذلك، فقد انهزمت الرجاء بشرفٍ يليق بالأبطال. وإذا كان الفريق قد غادر نفس العصبة هذا الموسم بضربات التّرجيح فبسبب تكالُب التحكيم السيّء عليه مع الظروف المناخية، وكذا الحالة الكارثية لملعب محمد الخامس الذي اتّضح أنّ نظام صرف المياه به كان مجرّد ديكور، ولا يبدو أنّه قد فُتِح في هذا الموضوع تحقيقٌ حتى الآن. وإذا كانت الفرق الوطنية الكبرى قد ضخّت دماءً جديدةً في أورِدَتها خلال الميركاتو الأخير، فإنّ الأزمة المالية التي تتخبّط فيها الرجاء منعتها من هكذا استفادة. ليُضحّي الفريق بقلب هجومه ياجور وَشِرْيانه النشط حذراف لصالح نهضة بركان وتخلّى عن صمّام أمانه بدر بانون لصالح الأهلي المصري. ولم يكن أمام جمال السّلّامي غير شباب الفريق لتطعيم مجموعته. ومنهم انتقى الأسماء الشابة التي تصنع التألُّق الحالي للرّجاء. بهم يحتلُّ السّلّامي المرتبة الثانية في البطولة الوطنية وعينُه على الموقع الأول، وذلك بعد عشر دورات تلقّى خلالها النسورُ هزيمةً يتيمة. وبهذه العناصر الفتية سحق الرّجاء بالأمس بيراميدز المصري بثلاثية نظيفة رفض منها الحكم إصابة لا غبار عليها. مع أنّ القيمة التسويقية لنادي بيراميدز مثلا تناهز 21 مليون يورو فيما قيمة الرجاء لا تتعدّى نصف هذه القيمة (120 مليون درهم). وبهذه المجموعة الشابة بلغ السّلّامي نهائي كأس العرب للأندية البطلة (كأس محمد السادس) الذي ستخوض الرّجاء غماره في النصف الثاني من هذا الشهر. ويبدو أنّ هناك من يبذل قصارى جهده لكي لا يبلغ السّلّامي هذه المباراة فيحظى إذا ما توفّق فيها بإنجاز كروي فريد يُعزّز مكانته وطنيا وعربيا هو القادم أصلًا إلى الرّجاء من تتويج قارّي (شان 2018). كلُّ هذه الإنجازات، ومع ذلك يجد السّلّامي من يحاسبه بقسوة وشراسة. مع العلم أنّ الظروف المادية الصعبة للنادي لن تتيح له مع الأسف الارتباط بمدرب يفوقه خبرةً. وحتى لو حصل ذلك، فمن أين للرّجاء بمدرّبٍ له نفس غيرة الرجل على ناديه الأمّ؟
بالأمس قاد السّلّامي مباراته “الأخيرة” مع الرجاء تطوُّعًا لكي لا يبقى مكانُه شاغرًا. وكانت المقابلة مثالية: الأداء ممتاز، والنتيجة جيّدة، والتأهل إلى ربع نهاية كأس الكونفدرالية الإفريقية صار مضمونا. فالرجاء تتصدّر مجموعتها بأفضل هجوم وأصلب دفاع (لم تتلقّ ولو هدفا واحدا حتى الآن). وإمعانا في الوفاء لفريقه، أعرب السّلّامي عن استعداده للبقاء رهن إشارته إلى أن تعثر الإدارة على بديل مناسب له. وها نحن ننتظر.
على عكس القسوة التي يتمّ التعامل بها مع جمال السّلّامي الذي تُقدِّم الرّجاء تحت إشرافه في مقابلاتها الأخيرة أداءً محترمًا، بل ومثاليًّا إذا اعتمدنا المقابلة الأخيرة ضدّ بيراميدز المصري مرجعًا، فإنّ حال المنتخب المغربي تحت قيادة المدرب البوسني الحامل للجنسية الفرنسية وحيد خليلوزيتش لا يسرُّ صديقًا ولا يُغيظ عدوًّا. أداءٌ باهت وتخبُّط غير مفهوم ولا مبرَّر رغم توفّر الإمكانيات المادية والبشرية، باعتبار قيمة الأسماء التي تشكِّل النّخبة المغربية. مع العلم أنّ هذا المنتخب كان يلعب بأسلوبٍ واضحٍ وخطط محكمة أيّام مدرّبه السابق هيرفي رونار. وكان بإمكانه الذهاب بعيدًا في مختلف المنافسات الدولية والقارية لولا أنّ رونار لم يعرف كيف ينتقي لمُنتخَبه قطع الغيار الثمينة، ولا كيف يُبدع في إدارة مجموعته ويُجدّد في اختياراته، حتى أنه سينجح في هزم المغاربة والتنكيل بهم في كأس العالم الأخيرة وكذا في كأس إفريقيا حين حرمهم بغباء المتعجرفين من أهمّ مهاجم مغربي حينئذ، وهو عبد الرزاق حمد الله، أفضل هدّافي العالم لـ 2019 برصيد 57 هدفًا، والهدّاف التاريخي للدوري السعودي بـ 34 هدفًا ذلك العام وهدّاف دوري أبطال آسيا بسبعة أهداف سنة 2020. أمّا اليوم، فالمغرب لا يحتاج ناخبًا عبقريًّا. فالقيمة المالية والفنية لمحترفيه في أهمّ الدوريات الأوروبية تكفي لفرض أسمائهم على أيّ مدرّب. لكن حينما تجد هذه الكفاءات الكروية نفسها محرومة من القيادة الفنية النبيهة ومن التأطير الذكي القادر على توجيهها تكون النتيجة ذلك الأداء الباهت الذي شاهدناه في مبارتَيْ المغرب الأخيرتين، ضدّ موريتانيا (0-0) ثم ضدّ بورندي حيث جاء الانتصار خجولا بهدف يتيم. وإذا كان هذا الأداء الباهت غريبًا عن المنتخب المغربي، فالكثيرون يرون أنّ المسؤول الأول عنه هو المدرّب الذي تصرُّ الجامعة الملكية لكرة القدم عليه، مؤكّدة على قرار تثبيته في مُصادَرَةٍ للنقاش المجتمعي الذي تلا المقابلتين الأخيرتين.
ومع ذلك، من حقِّ الجامعة علينا أن نحترم قراراتها حتى لو اختلفنا معها. لكن، أن تتكالب بعض وسائل الإعلام الدائرة في فلكها على العناصر الوطنية تُنكّل بها وتَكيل لها التّهم فقط كي تصرف أنظار المغاربة عن ضعف حيلة المدرب وتخبُّطه، فهذا غير مقبول. لذا وجب التنبيه إلى أنّ بعض وسائل الإعلام الوطنية قد انخرطت في مغالطةٍ شنيعةٍ يُسمِّيها المناطقة “مغالطة التركيب”. فهي تستعرض أسماء اللاعبين المغاربة وأسماء فرقهم وقيمتهم المالية لتستغرب كيف فشل هؤلاء النجوم، قبل أن تخلص بالكثير من التعسُّف إلى أنّ فشلهم في المباريات الأخيرة دليلٌ قاطعٌ على غرورهم وتقاعسهم وعدم تفانيهم في الدفاع عن الراية والقميص الوطنيّين. والحال أنّ المنتخب، أيُّ منتخبٍ، هو ذلك الكلُّ العضويُّ المُتآلِف وليس المجموع الجَبْري للاعبيه. ذاك أن الكُلَّ المركَّب من عناصر فريق لكرة القدم هو بالطبع أقوى من مجموع عناصره. فالأمر يحتاج كيمياءً خاصّةً تنضاف لتُوحّد هذه العناصر وتُؤالِف بينها. الأوكسجين ليس مادّة سائلة، والهيدروجين لم يكن قطّ مائعًا، لكنَّ تآلف هذين المكوّنين يعطينا مادة سائلة مائعة صالحة للشرب اسمها الماء. السّحر إذن في التآلف وخلق أسبابه وشروطه. إنّ المنتخب كيانٌ قائمٌ بذاته متميّزٌ عن أعضائه تميُّزَ الماء عن الأوكسجين والهيدروجين على حدٍّ سواء. لهذا قد نجد منتخبًا صغيرًا يتألّف من عناصر عادية من بطولة وطنية مغمورة – منتخب بنين مثلًا – يستبسلُ أمام منتخب كبير يعجُّ بالنجوم والمحترفين ويتسبّب في إقصائه.
هنا دورُ المدرّب. فإلى جانب اختيار التشكيلة وبناء الاستراتيجية ورسم الخطط وتكريس آليات اللعب، على المدرّب صياغة شخصية الفريق وبعث الروح في هذه المجموعة، تمامًا كما يفعل قائد الأوركسترا الذي لا ينشغل بتعزيز مهارات عازفيه، كما لا يقف مشدوهًا أمامها، بقدر ما يسهر على توفير مناخ تآلُف هؤلاء ليؤدّوا العمل الموسيقي في انسجام تام، وبالإتقان المطلوب. فهذا التآلف ليس وليد الصدفة، وإنما يُشتَغَل عليه خلال التمارين، وهو ليس مقصودًا في ذاته، وإنما الغرض منه العثور على لونٍ صوتي متميّز للجملة الموسيقية بما يجعل روح المؤلف باديةً للعيان. هذه الروح تحديدًا هي ما ينقص قائد أوركسترا المنتخب الوطني. لذا نُناشد إعلاميّينا، الذين فاجأتْنَا قسوتُهم على زياش ورفاقه هذه الأيام، أن يكونوا أكثر رفقًا بالعازفين. فلعلّ العيب في قائد الأوركسترا.
مراكش في 5 أبريل 2021