روني أولوج مستكشف المغرب العميق

روني أولوج مستكشف المغرب العميق

- ‎فيفي الواجهة
355
0

عبد الرزاق  القاروني*

 

   المستعرب والمتمزغ روني أولوج، مستكشف فرنسي الجنسية من جذور يونانية، ومن طينة الأدباء والفنانين الكبار. استكشف المغرب العميق بجباله ووديانه، لقب بأب البربر، وكان يحلو له أن يسمي نفسه الشلح العجوز أو المتجول في الجبال. رغم رحيله عن عالمنا، منذ ثمانينيات القرن الماضي، لا زالت مؤلفاته ذات أهمية وراهنية قصوى لمعرفة جوانب خفية من التراث والثقافة الأمازيغية.

 

أولوج الإنسان المتعدد الأبعاد

 

   رأى أولوج النور يوم 02 يونيو 1900 بلونس لوسونيي بمنطقة الجورا الفرنسية. كاتب وشاعر ومترجم، وفي استراحة المحارب، مارس هواية الرسم والتصوير الفوتوغرافي، تخرج من المدرسة العليا للمعلمين، ودرس بمعهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس العربية والروسية، إضافة إلى الأمازيغية. وكان له إلمام، أيضا، بالألمانية والإنجليزية، علاوة على الإيطالية. زار عدة مناطق باليونان قبل أن يستقر في ألمانيا للعمل صحفيا.

 

صورة للشاعرة مريريدة نايت عتيق بعدسة روني أولوج-

 

   وخلال سنة 1920، شد الرحال إلى مراكش، حيث فتح مدرسة أبناء الأعيان، وفي سنة 1926، أسس بدمنات مدرسة الأهالي، التي تسمى الآن المدرسة المركزية، والتي تعتبر النواة الأولى لمختلف المؤسسات التعليمية بهذه المنطقة.

 

   وبعد حصول أولوج على التقاعد من مهنة التدريس، استقر، مرة ثانية، بمراكش، وفي سن السبعين من عمره، أصيب بالعمى. وبعد حياة متميزة ومسار أدبي وفني حافل، توفي يوم 07 أبريل 1985 بمراكش، حيث دفن بالمقبرة الأوروبية لهذه المدينة.

   ومن أبناء أولوج، يعتبر ريمون من الذين ورثوا عنه رهافة الحس، والسير على نفس الخطى، خصوصا في مجال الرسم والاهتمام بالثقافة الأمازيغية، إذ دأب هذا الفنان، على رسم مناظر طبيعية ومشاهد يومية مألوفة لأبيه بالأطلس الكبير، مثل: وديان آيت بوكماز وآيت بوولي ومشاهد من حياة القرويين البسطاء والشعراء المتجولين.

صورة لروني أولوج 1-أثناء صيد الأروي

 

أغاني تساوت من المحلية إلى العالمية

   يعتبر ديوان “أغاني تساوت” الذي ترجمه أولوج من الأمازيغية إلى الفرنسية من أشهر إصداراته الأدبية. وهذا المتن الشعري يضم حوالي 120 قصيدة للشاعرة الشفاهية مريريدة نايت عتيق أو “تنظامت” من بلدة مكداز، كانت تسكن حي تقات بأزيلال، وتنشد الشعر بسوق هذه المدينة، تعرف عليها أولوج ذات لقاء بهذا السوق، فأغرم بها ومهد لشعرها الطريق نحو العالمية، عبر ترجمته من الأمازيغية إلى الفرنسية، وإصداره ضمن منشورات تيغرمت بمراكش سنة 1963، ليتم بعد ذلك ترجمته تباعا إلى اللغتين العربية والإنجليزية، من طرف الروائي والمترجم المغربي عبد الكريم جويطي، والباحث والمترجم الفرنسي ميكائيل بيرون، إضافة إلى ترجمة منتخبات منه، بواسطة الباحث المغربي في التراث والمخطوط مصطفى الطوبي.

   إن مريريدة شاعرة مجددة، ولتفادي التكرار والرتابة، كانت لا تلقي القصيدة دون أن تغير فيها، فكل إنشاد شعري، بالنسبة لها، هو نسيج وحده، إذ تتصرف فيه حسب مزاجها وأحوالها الآنية، مستلهمة أشعارها من المعيش اليومي والذاكرة الجمعية الأمازيغية، مع تضمينها شحنة انفعالية مليئة بالأحاسيس الجياشة.

   وعن علاقته بهذه الشاعرة، يقول أولوج: “وجدتني متوحدا روحيا مع هذه الفتاة المتوحشة التي اكتشفت في دواخلها روحا مفعمة بالحماسة والكرم، وهو شيء استثنائي في قلب الأطلس الكبير، مما عمق اندهاشي”.

   روني أولوج بالمقبرة الأوروبية بمراكش

 

وعقب الحرب العالمية الثانية، وتحديدا سنة 1946، توارت مريريدة عن الأنظار، بسبب تنكر أسرتها وأقاربها لها جراء نمط عيشها المتحرر الذي يخدش الأعراف والتقاليد الأمازيغية السائدة، في ذلك الوقت. وبعد سنوات من البحث والتقصي، علم أولوج، عبر إحدى صديقاتها، أن هذه الشاعرة قد هجرت بدون رجعة سوق أزيلال وبضاعة قرض الشعر لتعيش حياة الاستقرار والزوجية، رفقة أحد الجنود المغاربة، دون أن يتمكن أولوج من ملاقاتها، مرة ثانية، وسبر أغوار اختفائها الفجائي والغامض.

   لقب أولوج هذه الشاعرة بسافو البربرية، ونظر إليها آخرون على أنها شهرزاد الأمازيغية. ومهما يكن الأمر، فإنه، بفضل هذا المترجم المتمرس، اكتسبت هذه الشاعرة صيتا عالميا، وخرجت من زاوية الظل إلى عالم الأضواء، وأصبحت حياتها الاستثنائية ومسارها الشعري المتميز مصدر إلهام لعدة مبدعين عالميين، مثل المخرج والكوريغرافي المغربي لحسن زينون في فيلمه “موشومة”، والمخرج المغربي الفرنسي كمال هشكار في فيلمه الوثائقي “مريريدة نايت عتيق” والموسيقار المغربي والعالمي أحمد الصياد في إبداعه الأوبرالي الموسيقي “مريريدة”، إضافة إلى الروائي الفرنسي بيير دابيرنات في روايته “مريدة وطوق الوجود”.

 

أولوج مستكشف المغرب العميق

   يعد أولوج رجل ميدان، أحب الأمازيغ واهتم بثقافتهم وقضاياهم. كما يعتبر أول أجنبي يستكشف مجاهل مناطقهم القصية والعصية على الولوج، مشيا على الأقدام أو ممتطيا صهوة الدواب. وفي هذا الصدد، يقول: “أحب الجبل، أحب سكان الجبال الأشداء الذين قضيت بينهم عدة سنين، وإذ كان لا بد من إعادة رحلة الحياة، فإني سأختار المغرب لذلك”.

   لقد تأثر أولوج، في المجال الإبداعي، بالأدب الواقعي والطبيعي للأدباء الفرنسيين بلزاك وفلوبير وزولا، علاوة على موباسان، واستعان في إنجاز أبحاثه بأدوات الأنتروبولوجيا الوضعية التي من رموزها، وقتئذ، كونت ودوركهايم وموس، إضافة إلى ليفي بروهل.

   وعن زياراته وجولاته الاستكشافية لجبال الأطلس الكبير، ترك لنا هذا الباحث كتبا لا محيد عنها للدارسين والمهتمين بالقضايا الإثنوغرافية والسوسيولوجية الأمازيغية، من أبرزها: أبناء الظل، رعويات بربرية، القمم والوديان العليا للأطلس الكبير، أولئك القاطنون بالأدوية العليا، قصص الحياة المغربية وأغاني تساوت. وإضافة إلى هذه المؤلفات، خلف ألوج أشعارا متميزة، نشرها خلال الفترة الممتدة ما بين 1929 و1938 بمجلة “الأرض المغربية”، التي أصبحت تسمى فيما بعد مجلة “الحياة المغربية المصورة”.

 

   كان أولوج يؤمن بتكافؤ الفرص بين الشعوب من أجل التقدم، رافضا نظرية الأجناس لكوبينو، ومشيرا أن جميع الشعوب في مختلف بقاع العالم لهم نفس القدرات ويمكن أن يقوموا بنفس الأخطاء. وكانت مقاربته في تعامله مع الأمازيغ هي الحيطة والحذر، مما أهله للاندماج والقبول في عالمهم الصعب.

 

موقف أولوج المتحفظ من الحماية الفرنسية بالمغرب

   يعتبر أولوج من المناهضين للظهير البربري بالمغرب سنة 1930، ويرجع ذلك لمعرفته العميقة بالبلاد، وبطبيعة الإنسان الأمازيغي على الخصوص. وهذا ما جعل سلطات الحماية الفرنسية تمنع إصدار كتابه الموسوم بـ “أبناء الظل”، في ذلك الوقت، الذي لم يعرف طريقه إلى النشر إلا خلال سنة 1932، وذلك بسبب مقدمته الثورية والمناوئة لسياسة الحماية، التي كانت تعتقد في ضعف تدين الأمازيغ، وتراهن على إمكانية إبعادهم عن الدين الإسلامي وجعلهم أوروبيين، من خلال تلقينهم تربية خاصة تكون في خدمة مصالح الحماية. وفي هذا السياق، يؤكد أولوج على أنه من الخطأ الفادح التفكير في خلق صدام بين العربي والبربري بإعطاء هذا الأخير تربية أوروبية تبعده عن القرآن وتجعله قوة مناهضة للإسلام.

    لقد كان أولوج يؤمن بحماية منسجمة مع الذات والآخر، في مصلحة الحماة والمحميين، مما جعله يكون متحفظا جدا بخصوص إيجابيات الحماية، وجعله يخلص إلى صعوبة الحوار بين الحضارات وإلى سيادة عدم التفاهم الحتمي بين دعاة الحماية والمغاربة، وكذا إلى التنبؤ، ابتداء من سنة 1928، بقيام ثورة شعبية ضد أبناء جلدته في المغرب.

   أكثر من ذلك، لقد كان يشعر بتعاطف كبير نحو حركات التمرد الأمازيغي ضد الوجود الفرنسي بالمغرب. كما كان يتساءل ماذا سيجني الأمازيغ بالدخول في رقصة الشعوب وركب الحضارة الكبرى. وفي هذا الإطار، يقول على لسان أحد شيوخ الأمازيغ، موجها الخطاب للمحتلين الفرنسيين: “تعتقدون بأنكم جلبتم لنا النور، ولكن في الواقع، تريدون حملنا معكم إلى عتمتكم.

   إن أولوج باحث متنور واستشرافي، خلف إرثا ثقافيا غنيا ومتنوعا يحتاج للتمحيص والدراسة، وكذا لإعادة طبعه وتوزيعه، على الصعيد العالمي، حتى يكون في متناول الدارسين والمهتمين بالأنتروبولوجيا والإثنوغرافيا، وخصوصا بتاريخ الأمازيغ السياسي والثقافي، خلال النصف الأول من القرن المنصرم.

 

*عبد الرزاق  القاروني، صحفي وباحث مغربي

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت