من جامع الهناء إلى جامع الفناء

من جامع الهناء إلى جامع الفناء

- ‎فيفي الواجهة
242
0

بقلم: محمد ايت لعميم

جامع الفناء هبة الوباء. جامع الفناء المكان الذي نعرف ماضيه القريب، وتلتبس علينا تفاصيل ماضيه البعيد الدارس والمبهم، هو رحبة بالتعبير المتداول في القديم، وهو الساحة بالتعبير الفرنسي المحدث Place . وإذا كنا نجهل تفاصيل النشأة والوظائف القديمة، فإنما يسري عليه، يسري على الساحات العمومية التي عرفتها المدن القديمة الكبرى في العالم القديم، ساحات تضطلع بمهمات لها ارتباط بالسلطة الحاكمة وبالتجمعات الشعبية وبالاحتفالات والكرنفالات.
رحبة تكنفها الألغاز والأسرار، بدءا بظهورها في فجر زمن مدينة مراكش، ومرورا بتسميتها ووصولا إلى راهنها ومستقبلها، ألغاز بعضها فوق بعض.
ورد ذكر ما يشبهها عند لسان الدين بن الخطيب في القرن الرابع عشر الميلادي ،وذكرها اليوسي في “المحاضرات” عند حديثه عن الحلقة العظيمة التي ذهب إليها في الرحبة ليروح عن نفسه زمن الطلب في مراكش )ق 17(، وفي كلتا الإشارتين هناك حديث عن الحلقة والطعام والأكل. وستذكر في القرن 18م باسم جامع الفناء، فظهور التسمية ارتبط بهذه الفترة، ومن المحتمل أن الاسم استمد من الإشارات إلى وجود جامع لم يكتمل بناؤه، أو ربما إلى القتل والإفناء الذي كان يتم في هذا المكان.
يشير عبد الرحمان بن عبد الله السعدي )ق 17( في كتابه “تاريخ السودان” إلى بناء مسجد لم يكتمل وقد أصابه الخراب بقوله : ” وقد أدركت أن الأمير السلطان مولاي احمد السعدي أنشأ بناء الجامع و وضعه وضعا عجيبا، فسمي بذلك جامع الهناء ثم شغل عنه بترادف تلك المحن ولم يكمله حتى توفي فسمي جامع الفناء”، يؤكد هذا الخبر أن المكان استمد تسميته من جامع انهدم ولم يكتمل بناؤه، ويذكر أن شيئا ما شغل السلطان على إتمام البناء وليس هذا الشيء سوى الوباء الذي ضرب مراكش في ذلك الزمان، ورد في كتاب “السياسة والمجتمع في العصر السعدي” لابراهيم حركات ما يلي: ” بدأ بناؤه في عهد أحمد المنصور الذهبي ،ولما تسلط الوباء على أهل المغرب، أطلق على المسجد جامع الفناء، ثم سميت الرحبة المجاورةله أيضا بنفس الاسم”. ففي سياق هذه الالتباسات والألغاز يتبادر إلى الذهن مجموعة من الأسئلةتحتاج إلى أجوبة: لماذا تم اختيار هذا المكان لبناء جامع كبير بالقرب من مسجد الكتبية ؟ بماأن هذا الجامع أنشأ بأمر سلطاني فإنه سيكون جامعا كبيرا يعكس أبهة الملك، فأين هي آثارهالمندرسة ؟ أ ليس من الأجدى أن ترشدنا الحفريات والتنقيبات إلى مكانه بالضبط ؟ لماذا لم يكمل من جاء بعد المنصور من أبنائه هذا الجامع باعتباره تذكارا لوالدهم ؟ لماذا استسلم الذين جاؤوا بعد لما لحق بالجامع من خراب، واكتفوا بالحفاظ على التسمية التي أضحت بلا مسمى ؟ هل تم الحفاظ على تسمية جامع الفناء لتخليد حدث الطاعون الجارف، وبذلك ستتوطد العلاقة بين هذا المكان وبين الوباء الذي هد مشروعا لم يكتمل ؟ تبقى هذه الأسئلة معلقة إلى حين إعادة تشكيل الفضاء وإعادة ترميم ذاكرته كي تتضح الرؤية أكثر، وفي انتظار هذه الأجوبة، نلاحظ أن الوظائف والأحداث التي ألمت بهذا الفضاء عبر فترات من الزمن، اصطبغت بقوة التسمية وظل الفناء والإفناء لصيقا به. يذكر الضعيف في تاريخه، مجموعة من الأحداث كان مسرحها هو فضاء جامع الفناء، ومن بين هذه الأحداث المرتبطة بالموضوع، يوثق لحدث أعاد المكان من جديد إلى خرابه وإلى اندراس معالمه، ففي سنة 1178 هـ شب حريق رهيب ابتدأت شرارته من جامع الفناء، يقول: ” وفي صبيحة يوم النحر من العام احترق مراكش من جامع الفنى )الفناء( إلى أن خرجت النار من باب الخميس ومات كثير من الناس واحترقت الديار وما احتوت عليه من القش والزرع والأثاث وغير ذلك، وصادفت الريح الغربي ولم يقدر أحد على إطفائها، وسببها أصحاب القائد احسين كانوا يشربون الدخان، ولأجلهم قبضه السلطان وسجنه ونزعه وقيد مكانه ولد بن سامي المراكشي، وفيها قدم السلطان على الصويرة وأسكن فيها العلماء من أهل فاس وغيرهم وحصنها وأنفق عليها مالا عظيما”. فلنا أن نتخيل حجم الدمار الذي لحق مراكش في القرن 18م، وكم من المنازل والرياضات دمرت عن آخرها بسبب هذا الحريق الذي أتى على الأخضر واليابس بفعل طائش لأشخاص غير مسؤولين ومتهورين، فلنا أن نتخيل حجم آثار هذه النكبة على المدينة وأهلها وتشرد أسر وعائلات أتت الحرائق على ممتلكاتهم، وغير بعيد عن هذا الحدث يتعرض الضعيف إلى حصار مراكش من قبل اليزيد ،فيصف أهوال هذا الحصار الذي أطبق على أهل مراكش من جميع الأبواب،، وكيف دخلت جيوش اليزيد ودمرت مراكش وأهلها، يقول: ” ولذلك فرق على الأبواب الخيل ثم نهض إلىأن وصل مسرب طريق تمصلوحت وقصد لباب اكناوة )أكناو( وكان فيه بعض البرابر منغيغاية، فنزل عليه وشمر على ساعده ونزل على ظهر فرسه ووجه النفض إليه فضربه بالكورةفسقطت إحدى الدفتين فركب على فرسه وأسرع للباب بالدخول فتبعته المحلة وسار لدار أبيهبالمنشية فوجد باب القصبة مسدودا وفيه أهل المنشية، فأمر على الطبجية ووجه إليه الأنفاض فأمر بضرب الباب بالكور فتركه على نصفين مشطور، وهو ينظر أهل مراكش تلقي أنفاسها من أعلى السور، ثم حرض المحلة على قتل أهل مراكش وأطلق فيها السبيل بعد أن دخلها قهرا بالسيف والغلبة، فدخل البعض من محلته على باب الرب ،واجتمع الجل من الجيش بجامع الفناء، ودخل البعض على جامع بريمة، فوجدوه مملوءا بالرجال من أهل مراكش فأخذوا في قتله حتى كانوا يخرجونهم على البغال ويرمون القتلى بجامع الفناء، وأمرهم بنهب الملاح وأخذوا في قتل اليهود وفي سلبهم ويفتكون بنسائهم ويدخلون على أبكارهم، وكان حدثا عظيما .”
يحضر جامع الفناء في هذا النص التاريخي الذي وصف هول حصار مراكش وما لحق أهله من تقتيل وتشريد باعتباره فضاء تتجمع فيه الجيوش ولم يتأتى له ذلك إلا إذا كان مكانا شاسعا لاستيعاب الجيش وأسلحته ومدفعياته وخيوله، وأيضا مكانا لتكويم الجثث وإلقائها في هذا المكان الذي قد يتحول إلى مقبرة جماعية، إلى فضاء تنبعث منه رائحة الموت. هذه الأحداث المرعبة والمخيفة التي عرفتها هذه الرحبة الفسيحة ستخيم ظلالها على ذاكرة المكان، وستكرر فيها أحداث جسام، ففي القرن 19م) 1864( ستعرف الساحة أيضا انفجارا ضخما لكمية هائلة من البارود، وقد أطلق عليها “هدة البارود” التي وصفها الفقيه أكنسوس وكأنها القيامة للرعب والهلع الذي أصاب الناس حين انفجرت مخازن البارود وهدمت الأمكنة القريبة والبعيدة. بقوله”وغشي الناس دخان منتشر ، وأظلمت الدنيا، ولم يشك من بقي معه بعض عقله أن القيامة قامت”.
من خلال هذه الأحداث الجسام التي تناوبت على هذا الفضاء، نلمح في هذا المكان قدرته على الانبعاث، وكأنه أرض النشورية، فرغم هذه النكبات كانت الساحة تصمد وتولد من جديد تتغير ملامحها ويتبدل جلدها ولكنها دائما هناك، وهذا سر من أسرارها. إذا كانت جامع الفناء استمدت اسمها من لحظة وباء جارف أوقف إكمال المسجد الذي حمل اسم الفناء، فإن وباء كورونا اليوم كان من وراء إيقاف الحياة فيها وإفنائها، وهو أمر لم تعرفه قط ساحة جامع الفناءطيلة تاريخها، باستثناء المحاولة الفاشلة لإغلاقها غداة الاستقلال غير أن الإغلاق الإداري لميصمد سوى ثلاثة أيام، لتعود الحياة إليها، أما اليوم فالإغلاق قهري وليس إداريا، تمكن فيهالوباء من شل الحركة لشهور عديدة، وأصبح الفراغ فيها مخيفا لأن جامع الفناء تخشى الفراغمثل الطبيعة إذ جوهرها حشدي وجماعي، تحيا الساحة في المابين، بين الفراغ والامتلاء، بين الجمع والإفناء، في حركية دائمة فهي ساحة متحركة مثل كثبان الرمل في صحراء مترامية الأطراف. لكن أ لم يكن الوباء الغريب الذي شل الحركة وفرض التباعد والارتياب من الآخر والتوجس منه، وهذه كلها علامات تجافي جوهر الساحة، لحظة حقيقية لإعادة النظر في طبيعة الساحة، واجتراح طرائق جديدة في تأمين الحياة فيها رغم الداء والوباء، لماذا استسلم الكل لوطأة رعب الوباء الكوفيد العجيب، ولم يستثمر في اتجاه يؤمن لرواد الساحة حضورهم ولو بشكل افتراضي عبر التقنية المعاصرة التي لعبت دورا مهما في ملء الفراغ الذي أحدثه التباعد الاجتماعي، ولربما لو تم التعامل مع العالم الافتراضي في إشاعة فنون الساحة، لظفرنا بنسخة أخرى لجامع الفناء تدخل البيوت في انتظار عودة الناس إلى مكانهم المألوف، ولوصلت لمحبي الفنون الشعبية والثقافة الأصيلة إلى العالم كله .
لقد كانت الأوبئة من وراء اكتشاف مواضيع للحكي، حيث أسهمت في ظهور كتابات خالدة، ومن أشهر الأعمال التي أنشأها الوباء هي العمل المشهور ” الديكاميرون” الذي كتبه جيوفاني بوكاتشيو في القرن 14م، أثناء الطاعون الأسود الذي اجتاح أوربا بأكملها، وكانت مدينته فلورانسا قد اجتاحها هي الأخرى، حيث هربت مجموعة من الأفراد تتكون من سبع شابات وثلاثة شبان إلى قصر فخم في الريف قضوا فيه أسبوعين أثناءها كانوا يتناوبون على الحكي، كل يوم تحكى حكاية حتى وصلت إلى مائة، وقد تناولت الحكايات موضوعات متنوعة حول الثروة وقوة الإرادة وحكايات الحب والحيل والفضيلة. ألا يمكننا أن نتخيل رواة الساحة وقد انتبذوا مكانا قصيا، هربا من الوباء مجتمعين متباعدين يحكون قصصا جديدة لم يسبق لهم أن رووها في الساحة يكون موضوعها هو التأمل في طبيعة هذا الوباء وانعكاساته على الناس والمجتمع والاقتصاد والعلاقات الجديدة التي فرضها الوباء على البشر،والشيء بالشيء يذكر ، فقد كانت هناك محاولتان في هذا الصدد، شهدت واحدة منها، فقد دعينا إلى رياض في قلب المدينة العتيقة، حيث هيأ لنا مضيفنا بانا مجلسا لراوي غريب اظهره الوباء فقد علينا حكايات قديمة نقلتنا إلى عوالم غريبة كنا في حاجة إلى السفر اليها، ونسيان وساوس الجائحة، وهناك مجلس آخر يحضر فيه الحكواتي باريس في مقر جمعية منية مراكش برياض الجبل الاخضر، بيحكي ويروي لجمهور منتقى مقصور. أليس ما جرى وحدث يشكل بداية عصر جديد، يحتاج إلى توثيقه عبر الحكاية، وعبر ابتداع عوالم تخييلية جديدة. أ لم يان بعد أن تصير الساحة ذاتها موضوعا حكائيا، عبر طبقات ذاكرتها وتاريخها. إذ أفضلما نحيي به ذكر الساحة هو رواية ذاكرتها وإيصالها إلى الأجيال عبر حكي وتشويق وتخييل .
“فالحياة تنفلت هاربة ولا تنتظر ساعة واحدة” كما قال بترارك في سوناتة “في الموت” التي كتبها في أوج جائحة الطاعون، إذ عام 1348 كان هو عام الموت في أوربا رجالا ونساء بغض النظر عن السن ودون تمييز لوضعهم الاجتماعي، يقول بوكاتشيو : ” وكم من الرجال الشجعان البارزين … تناولوا الفطور في الصباح مع أسرهم وأصدقائهم ليتعشوا في الليل مع أجدادهم وأسلافهم في العالم الآخر .”

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت