بقلم : محمد بوفتاس
عندما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، خرج صاحبه أبوبكر ليقول حكمة تاريخية فلسفية سياسية هي (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، مات نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه بشر، نعم إنه بشر، لكنه بشر يُوحَى إليه، كما قال تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)، لم يطلب من أحد أن يعبده أو يرفعه لدرجة التقديس الأولهي، رغم أنه أفضل خلق الله وأسماهم، ناقل لكلام الله ومفسر له، أسس بنيان دولة من يثرب التي أصبحت المدينة المنورة ونواة الدولة الإسلامية، وعلى مدى قرون تجسد الإسلام في الاعتقاد والمعاملة، في نوع من التناغم والتجانس كانت فيه المرأة تحتل مكانة متميزة إلى جانب الرجل كعالمة ومتفقهة في الدين وشاعرة وتاجرة ومحاربة وغيرها. كان الدين حينها معتقدا ونظاما سياسيا وتشريعا لا يقوم على التقليد العمى بل استند على العقل ونشأت أحزاب سياسية وفرق كلامية ومذاهب فلسفية وعلوم، وبلغت الحضارة قمتها، في تجانس تام بين مكوناتها الشيعية والسنية ومختلف المذاهب الدينية، ورغم الصراعات والحروب الاختلافات لم نسمع دعوات الانغلاق على مظاهر السلف وتقليده والسير على منواله، بل رأينا تطورا وتقدما عكسته العلوم العقلية الفلسفة والعلوم الشرعية. كانت الفترة بامتياز زمن العقل.
سالت مياه كثيرة تحت الأنهار، وبعد فترات الرقي الحضاري وصلنا إلى مستوى من التخلف يندى له الجبين، ولكي لا يتحول المقال إلى سرد تاريخي سأكتفي بالحديث عن الفترة المعاصرة خاصة بعد أن أصبح الدين سجلا تجاري يتاجر به كل من هب ودب، وتحول إلى مبرر لارتكاب كل الفظائع باسم الدين حتى أصبح الإسلام رديفا للإرهاب والمسلم إرهابيا، فما الذي أوصلنا إلى هذا المستوى من التخلف و الإصرار على السير في درب التخلف و الانتكاسات المتسلسلة؟
لعل أول ما يمكن ان نجزم به هو فشل المشروع السلفي، وعلينا أن نتخلى تماما بل أن نلغي كل الدعوات السلفية لأنها لم تقد للعالم العربي والإسلامي سوى مزيد من التخلف ومعاكسة التاريخ، أما بعض المذاهب المتشددة التي تسود في بعض الدول الخليجية، مثل الوهابية، فتسببت في اغراق الشعوب في عهود ظلامية مختلفة بعيدة كل البعد عن النزعة العقلانية للدين الإسلامي، فشل المنظومات الفقهية أدى إلى هيمنة الفكر السلفي وتفشي الجهل والتخلف وسيادة الايمان المبني على التقليد بل الاعتقاد العقلاني المنطقي. وبدأت مرحلة تقديس الفقهاء والعلماء، وكذا تقديس مؤلفاتهم واعتبارهم المبتغى والمنتهى، ورفض كل تشكيك او مناقشة او رفض لأفكارهم، هنا بدأ المنحدر الصعب عن الانغلاق الكلي بعد الاتباع الكلي وانتقلنا من مرحلة التفكير إلى مرحلة التكفير بطريقة مجانبة لكل من يختلف معهم، لماذا أعتبر بأن هذا الانغلاق الكلي يشكل خطرا؟
ببساطة لأننا وضعنا بينا وبين جوهر الدين قيودا تسمى شروح ومتون وتفاسير الفقهاء ورؤيتهم، واعتبرنا بأن لا حق لغيرهم في شرح الأصول والفروع، ونحن بدلك لا نتناقض مع المنطق فقط بل نضرب جوهر العقلانية ومنطوق النص المقدس الذي يطلب منا التأمل والتفكير، فكيف يمكن أن نلغي واقع الحال وشروط الظرفية ومتغيرات التاريخ ونقصر الفهم والتأويل على الماضي دون تجديد، بل حتى هؤلاء الفقهاء المحدثين هم استنساخ وتقليد لأسلافهم لا في طريقة التفكير أو التعبير أو اللباس، وكأننا نحاول أن نجمد التاريخ على ظرفية زمنية وندفن رؤوسنا في الرمال.
مشكلة العقل الديني الجمعي أنه توقف عن التطور وطغت عليه السلفية، بل إنه يفتقد إلى روح التجديد وانعدام آليات التواصل الحديثة وخاصة على المستوى الإعلامي، فنحن نرى في كل الأقمار الاصطناعية قنوات دعوية سواء مسيحية او إسلامية أو غيرها، وحين نقارن بينها نجد فرقا شاسعا في المنهج التواصلي، فأغلب القنوات الدعوية الإسلامية تبحث عن أشخاص بلحي وتزرع الرعب في النفوس وتعتمد خطاب الترهيب والخوف وكأن الانسان لا يكون مؤمنا إلا بخوفه من الله وعذابهـ وتناسوا التركيز على محبة الله ورحمته، وهو ما تقوم به القنوات المسيحية سواء من حيث الأشخاص الذين يقدمون هذه البرامج أو طريقة تقديمها. هناك خلل حدث في بنية العقل العربي خاصة بعد هيمنة التيار السلفي وتركيز العامة على المظاهر دون الجوهر والشكليات عوض الوعي العقلاني. ولا يمكن أن نغير نظرة العالم لنا إذا لم نغير نظرتنا لأنفسنا وتعاملنا مع بعضنا، وأهم شيء هو نزع القداسة عن الأشخاص كيفما كانوا فلا مقدس سوى الله، لأننا أصبحنا نعيش ازدواجية بين دين الله ببساطته ويسره وبنيته العقلية وروح التسامح المستمدة منه، ودين الفقهاء المبني على فهم خاص للدين ويتسم بالتشدد والعدوانية والعنف والانفعالية، ويحاول التشبث بالشكليات والمظاهر التي حولت الدين إلى صك تجاري يستغله البعض للهيمنة على العامة. وما بين دين الله ودين الفقهاء يترعرع الإرهاب والعنف الذي يسيء للإسلام والمسلمين.
ما المطلوب منا ؟ لعل أهم شيء هو العودة إلى المرحلة العقلانية ورد الاعتبار للعقل ليتحول الايمان إلى قناعة منطقية بدل تقليد شكلي، وثانيهما الدعوة إلى تغيير المنطق السلفي التقليدي ونزع القداسة المصطنعة عن الفقهاء و العلماء لأن الكمال لله وحده، حينها سنتمكن من تغيير العقليات ونبني فكرا يعيد للدين الإسلامي رونقه وجوهره الحقيقي الذي طمسته السلفية والفكر التقليدي المتحجر والاعتماد على الشكليات. الإسلام دين عقل وليس دين تقليد، ولا قدسية لفقيه أو عالم مهما بلغ من درجة العلم لأن الكمال لله.
للموضوع صلة.
الإسلام السياسي 2 : المسلمون أكبر أعداء الإسلام
http://الإسلام السياسي 2 : المسلمون أكبر أعداء الإسلام https://klamkom.com/?p=93066