دييجو.. يد تثور وقدم تكتب الشعر

دييجو.. يد تثور وقدم تكتب الشعر

- ‎فيرياضة, في الواجهة
231
0

بقلم : أحمد عبد المنعم

 

لم أكن أعلم الكثير عن كرة القدم قبل كأس عالم 1994، كنت فقط أعرف اسمى مارادونا وزيكو حيث اعتدنا أن نغنى لفريق مدرستنا فى أثناء مبارياته ( ولا مارادونا ولا زيكو، كابتن –فلان- هيوريكو). بذلك الحين لم أكن مدركًا أن هذا المارادونا هو اللاعب نفسه الذى أشاهده فى صباح كل يوم خميس على القناة الثانية بمقدمة (اليوم المفتوح) وهو يمر متراقصًا بين لاعبين كثر نحو المرمى، مسقطًا إياهم واحدًا تلو الآخر حتى يودع الكرة فى الشباك.
قبيل انطلاق كأس العالم بأيام أصطحبنى أبى فى مهمة خاصة بعمله، أو ربما زيارة لصديق، لا أذكر تحديدًا، أعطانى نسخة من جريدة لأقلب صفحاتها حتى انشغل بها عنه، ربما كانت العربى الناصرى، وجدت فى الجريدة صفحة كاملة عن مارادونا بصورة له تمتد بطول الصفحة، صورته عندما كان عشرينيًا بشعر ناعم طويل وملامح طفولية جذابة. أدركت حينها للمرة الأولى أنه هو اللاعب الذى يراوغ الجميع بمقدمة اليوم المفتوح.

تابعت البطولة العالمية لأول مرة فى حياتى، وبحثت عنه بين اللاعبين، كانت ملامحه مختلفة تماما عن صورة الجريدة، بدا عجوزًا بشعر قصير خشن وملامح أكثر جدية، غير أن فكرة العودة من الإيقاف والإدمان والعجز إلى المنافسة على بطولة العالم من جديد استهوتنى وأبهرتنى. مازال مشهده وهو يمسك بعدسة الكاميرا ويصرخ فى وجهها حتى تطاير الرذاذ على عدستها بعدما أحرز هدفه بمرمى اليونان عالقًا بذاكرتى كصورة بطل شعبى يصرخ رافضًا الهزيمة.
****
حتى وإن لم تكن مهتمًا بالكرة ولا تهوى مشاهدتها، فإنك بالتأكيد تعرفه، هذا القصير مكتنز الجسم بقفزته الشهيرة وجريته الثعبانية. أما إن كنت من المهتمين بمتابعة كرة القدم، فلابد أنه قد أذهلك وسلب عقلك وتلاعب بمشاعرك وهو يحمل كأس العالم بابتسامة طفولية أو وهو يبكى بعد خسارة ظالمة فى نهائى كأس العالم 1990، أو حتى عندما رأيته وقد زاد وزنه وأصبح أقرب إلى لاعبى السومو منه إلى لاعبى الكرة.


بدأتُ فى متابعة كرة القدم منذ ذلك الحين، فى نهاية عهد الأمهر على الإطلاق مارادونا ومع بزوغ نجم الشباك وحاصد الأهداف جابرييل عمر باتيستوتا، وبسببهما أحببت الأرجنتين وعشقت اللونين الأبيض والسماوى، أصبحت أرجنتينى الهوى. كان ذلك قبل أن أقرأ لبورخيس أو أتابع رقصات التانجو أو أسمع موسيقى أوستور بياتزولا أو اشاهد فيلم (حكايات وحشية) أو أعرف عن جيفارا، ولكن بعد أن قرأت وشاهدت وسمعت وعرفت زاد حبى للدولة اللاتينية.
فى2014، أدركت مدى التقارب بيننا وبين الأرجنتينيين، أقصد بيننا نحن المصريين وهم اللاتينيين، كان ذلك عند مشاهدتى لتحركات جماهيرهم العريضة الزاحفة إلى الجارة اللدود البرازيل فى أثناء بطولة كأس العالم، حيث أحتلوا الشوارع، مشوا فى تجمعات أشبه بالمظاهرات فى قلب العاصمة البرازيلية ينشدون أغانى تُحقر من بيليه وتسخر من البرازيليين، ركبوا المترو وهم نصف عرايا بسبب الحر، احتلوا المولات وملأوها بهتافاتهم، وسهروا على الشواطئ وفى الشوارع حتى مطلع الفجر. بدا لى أن شيئًا مشتركًا يجمع بين شعبينا.****
” له وجه طفل، وجه ملاك
له جسد الكرة
له قلب أسد
له قدما غزال عملاق “*
****

وكأى بطل أسطورى فحياة مارادونا محشوة بالدراما والدموع والعنف والصخب. كتب البريطانى ويل ماجى عما عاناه الأرجنتينى القصير عندما خرج من بوكا جونيورز إلى برشلونة لأول مرة فى عام 1982. يقول ويل أن المدرب النحيف مينوتى، صاحب التأثير الكبير على مارادونا، كان مشهورا بكرة قدم غير تقليدية ومبدعة، ومع انتقاله لتدريب برشلونة حاول أن يضع الفريق فى إطار جديد، وبصورة يسكن مارادونا فى قلبها. بينما كان أتلتيك بيلباو، أحد أقرب منافسيهم، يلعب بأسلوب أقل رومانسية، وأكثر اجتهادًا وعملية. لم تكن كرتهم قبيحة إلا أن وجود اللاعب المدعو جويكو فى قلب دفاعاتهم، وصمهم بسمعة اللعب القاسى والعنيف. كان جويكو مدافعًا ضخمًا مفتول العضلات، من بلدة مكسوة باللون الأحمر وسط جبال الباسك الوارفة الخضراء، بوجه يشبه الأحجار المهشمة وبتعبيرات تنم عن تهديد ووعيد دائمين. كان جويكو رمزًا مخيفًا فى قلب دفاع أتليتك بيلباو، ومنذ ظهوره الأول عُرف بتدخلاته الوحشية، وبدا وكأنه يستمتع بتدمير المنافسين بأية طريقة.


فى سبتمبر 1983، استضاف برشلونة بيلباو فى ملعب الكامب نو، ودمروه تمامًا. تقدم الفريق المُضيف بثلاثة أهداف فى منتصف المباراة، صنع مارادونا اثنين منها. فقد جويكو عقله وهو يتابع مارادونا بعدما التقط الكرة مرة أخرى فى الثلث الأخير من ملعب بيلباو ليبدأ هجمة جديدة. عندها اندفع جويكو نحوه وقام بعرقلة وحشية من خلفه مهشما قدم مارادونا، تاركا إياه يصرخ فى ألم بعد أن كسر كاحله بشكل بدا خطيرًا. كانت تلك العرقلة سببا فى تسميته (جزار أتليتك بيلباو).
ليس من المبالغة القول بأن تلك العرقلة كان من الممكن أن تُنهى كل شئ لمارادونا، الرجل الذى سيفوز بكأس العالم ويصبح أعظم لاعبى الكرة. واجه دييجو فترة طويلة من البُعد عن الملاعب، وشهورا من التأهيل قبل أن يصبح قادرًا على اللعب مجددًا. استشاط مينوتى غضبًا بعد الحادثة، ووصف جويكو بأنه واحد من عِرق (أعداء لاعبى كرة القدم)، ثم طالب بمنعه من اللعب لبقية حياته.
اعتذر جويكو مرارًا، مدعيًا أنه لم يتعمد أبدًا إصابة مارادونا. كان من الممكن تصديق تصريحات جويكو لو لم تذكر التقارير أن الجزار ظل محتفظا بالحذاء الذى أرتداه ذلك اليوم فى حافظة زجاجية فى بيته كتذكار لجريمته الأكبر.


يكمل المدون البريطانى ويل ماجى قائلا أن مارادونا استطاع أن يعود أسرع من المتوقع، ولعب المباراة الثانية فى الدورى ضد جويكو ورفاقه، مسجلا هدفين ليقود فريقه للفوز. بعدها شارك دييجو فى نهائى كأس الملك الذى تصارع فيه برشلونه وبيلباو فى مبارزة أخرى، شهدت انقلابًا دراميًا حوّل خاتمة الموسم إلى صخب وعنف.
فى تلك المباراة، أُصيب مارادونا بجرح جديد فى ساقه إثر تدخل قوى من جويكو، تبعته صيحات مستهزئة وهتافات عنصرية من الجماهير الباسكية ضد النجم الأرجنتينى، بدأ الغضب فى التملك من مارادونا حتى أظهر وجهه العنيف. بدأت فى هذه اللحظة ما قد نعتبرها أعنف مشاجرة فى بطولة محلية كبرى، حيث وجه مارادونا ركبته نحو وجه ميجيل سولا بعد مشادة كلامية بينهما، فطرحه أرضًا قبل أن يبدأ دييجو فى توزيع عدد من الركلات لمختلف لاعبى بيلباو. وفى خضم ركلات الكونج فو واللكمات التى تلت، استطاع جيوكو أن ينفرد بدييجو ويودّعه موجهًا له ضربة أخيرة بركلة طائرة.
كان ملك أسبانيا خوان كارلوس حاضرًا فى المباراة النهائية، كما قُدر عدد مشاهديها فى التليفزيون بنصف سكان أسبانيا، وأصيب العشرات فى المشاجرات اللاحقة للمباراة. بعدها قرر مارادونا أن يرحل عن أسبانيا، كانت حادثة بيلباو هى السبب الرئيس لقراره بالانتقال إلى نابولى.
****
” لا يمكن إيقافه، كما لا يمكن للملك الأحمق أن يوقف موج البحر، هكذا يقول الخبراء الرياضيون الذين وجدوا في المرجعية الشعرية اللغة الوحيدة القادرة على وصف هذا الشيطان الملائكي، صانع الفرص، نشّال ماهر، موجود في كل مكان، حوّل الملاعب المكسيكية إلى مرتعه الخاص.”*
****

لم يفز نابولى بالدورى إلا مرتين، كانتا فى عهد مارادونا، كما قادهم للقبهم الأوروبى الوحيد، كان ما يدور فى إيطاليا حينها بمثابة ثورة يقودها هذا الوافد اللاتينى القصير. لم يكن الأيطاليون يصدقون ما يحدث، وبرز العداء بين نابولى وبين فرق الشمال، كل فرق الشمال وفى مقدمتهم ميلان واليوفتنتوس، على خلفية تفوق أبناء الجنوب.
يقول إدواردو جاليانو فى كتابه البديع (كرة القدم) “صار مارادونا فى نابولى القديس مارادونا، وصارت تباع فى الشوارع صورة الإله ذى السروال القصير، مضاءة بتاج السيدة العذراء أو ملفوفة بعباءة القديس الذى ينزف كل ستة شهور، وكانت تباع كذلك توابيت لأندية الشمال الإيطالى، وقوارير مملوءة بدموع برليسكونى، وكان الأطفال والكلاب يظهرون بشعور مستعارة مثل شعر مارادونا.”
يضيف جاليانو أن كل هدف أحرزه دييجو كان يعتبر تدنيسًا وانتهاكًا للنظام السائد وانقلابًا مضادًا لمسار التاريخ، حتى فى كأس عالم 1990 المقام بإيطاليا كانت الجماهير تعاقب مارادونا بالصفير الساخط كلما لمس الكرة، حتى احتُفل فى إيطاليا بهزيمة الأرجنتين أمام ألمانيا فى المباراة النهائية بضربة جزاء خاطئة وكأنه انتصار إيطالى.


“عندما بدأ نادى نابولى يلعب أفضل كرة قدم فى إيطاليا بتأثير مارادونا السحرى كان رد فعل شمال البلاد هو أنها استلت أسلحة الازدراء القديمة، فالنابوليون الذين اغتصبوا الأمجاد المحظورة عليهم كانوا ينتزعون بذلك الغنائم من المتسلطين الأزليين، فما كان من هؤلاء إلا أن عاقبوا الغوغاء الدخيلة القادمة من الجنوب. فعلى مدرجات استادات ميلان أو تورين، كانت تُرفع اليافطات المُهينة : (أيها النابوليون، أهلا بكم فى إيطاليا)
وبقوة أكبر من أى وقت مضى كانت تدوى أغنيات هى ابنة الخوف وحفيدة العنصرية :” يا للرائحة الكريهة.. حتى الكلاب تهرب.. النابوليون قد وصلوا.. آه للملونين للمزلزلين.. لا يمكن حتى للصابون أن ينظفهم.. نابولى أيتها البراز.. نابولى أيتها الطاعون.. أنتِ عار على إيطاليا كلها.” ”
****

“مارادونا رفع كرة القدم إلى مستوى التجريد الموسيقي الشفاف، رفعها إلى الطهارة المطلقة. لعب مارادونا من أجل اللعب، وحوّل كرة القدم إلى أغنية راقصة، مزيج من السامبا البرازيلية والتانغو الأرجنتيني.”*
****
فى العام الماضى، منحت مقاطعة نابولى الجنسية الشرفية لمارادونا، بعد شهور من تسميته سفيرًا لها فى العالم، مارادونا هو رقم 10 الأخير فى تاريخ الفريق الجنوبى بعدما اتخذوا قرارًا بمنع أى لاعب من ارتداء الرقم من بعده، مارادونا بمثابة ملك لنابولى، قديس أو إله. ركب دييجو فى ليلة تتويجه بالجنسية الشرفية على سطح عربة ضخمة، وجاب أنحاء المدينة، طاف وهو يغنى بأعلى صوته للفريق بينما تجمع حوله المشجعون الجنوبيون، كانوا ينشدون “من لا يغنى معنا اليوم، فهو من مشجعى اليوفنتوس”.


بات مارادونا جزءًا من ذاكرة نابولى، تحتل رسوم الجرافيتى لوجهه البنايات، الحوائط والأسوار، يبدو فى رسومهم مناضلا أو مقاتلا ذا نظرة حادة وملامح حاسمة. لا يمكن لأى من مشجعى نابولى أن ينسى المشهد الأشهر لفريقهم، الغريب أنه ليس لقطة لهدف أو لحظة تتويج ببطولة، ليس مراوغة ثعبانية كالتى أدمنها الأرجنتينى، ليس حتى جزءا من مباراة، بل دقائق من إحماء فريقهم قبيل بداية مباراة نصف نهائي البطولة الأوروبية، حيث وقف مارادونا فى قلب الملعب الألمانى قبيل مواجهة مع شتوتجارت على ملعب الأخير، وهو يؤدى حركات الإحماء بشكل راقص على أنغام أغنية Live is life غير عابئ بالجماهير الألمانية المتأهبة للمباراة الحاسمة. يقول منافسه كلينسمان “كنا متوترين، نتدرب فى الجانب الآخر من الملعب بجدية تليق بنا كألمان، وفجأة لمحنا ما يفعله مارادونا وانتبهنا إليه، بدأنا ننظر إليه واحد تلو الآخر، ثم توقفنا عن الإحماء لنشاهد ما يفعله هذا المجنون.” قاد المجنون فريقه للفوز بالمباراة ليلتها، ثم أضاف اللقب الأوروبى الوحيد إلى خزائنهم.
****
“مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم. دانت له بقدر ما دان، هو، لكرة القدم، التي صارت كرة قدمه، النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، لتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزم بهذا الامتنان: فما أسعد من هزمته قدم مارادونا!. “*
****

بزغ نجم ماردونا لأول مرة عندما قاد بلاده للفوز بكأس العالم للشباب فى1979 ولم يخفت أبدًا، أصبح نجمًا تحبه الأضواء ولا تلبث أن تظن أنه توارى وبعد عنها حتى تراه يتوسط الصورة مزيحًا عن طريقه نجومًا بارزين ليطغى هو بحضوره المميز وكاريزماته اللافتة، وأحيانًا بسلوكه المثير للجدل وربما المشين. رغم ما شاب مسيرته من إدمان ومافيا وكوكايين، لم يفقد مارادونا قلوب محبيه بل اكتسب مزيدًا من التعاطف، له نظرة تمتزج فيها براءة الأطفال باستهتار المراهقين، فلا تستطيع أمامها إلا أن تحبه.
ولد الدييجو بعد عام واحد من صعود فيديل كاسترو ورفاقه إلى سدة الحكم ودخول كوبا وأمريكا الجنوبية إلى منعطف تاريخى جديد. كان الطبيب الأرجنتينى جيفارا قد تعرف بالثائر الكوبى فيدل كاسترو فى المكسيك. كان كل منهما فى مكسيكوسيتى لأسباب مختلفة عن الآخر، كاسترو فى رحلة بحث عن سلاح من أجل ثورته الوليدة وجيفارا بصحبة زوجته بحثًا عن عمل. انجذب الشاب الأرجنتينى ذو الصدر المريض إلى صديقه الكوبى ذى الذقن غير المشذبة، وتزاملا فى صداقة غيرت مجرى التاريخ.
بعد حوالى خمسين عاما، كان كاسترو على موعد مع نجم أرجنتينى مريض آخر، وذلك عندما وجه كاسترو دعوة لمارادونا أن يأتى إلى الهافانا برحلة لستشفائية من إدمانه للكوكايين الذى لازمه على مدار خمسة عشر عاما، حيث أوقفه عن اللعب فى أوج عظمته عام 1991 قبل أن يبعده عن اللعبة برمتها ويهدد حياته مرتين، توقف قلبه فى ثانيهما، إلا أنه أبى أن يفارق الحياة.
بعد شفاء النجم الكبير وعودته للأرجنتين، وقبيل تنحى كاسترو وتولية أخيه راؤول، رد فيدل الزيارة لصديقه حيث استضافه مارادونا ببرنامجه التليفزيونى ( ليلة الرقم 10). لم يلتق كاسترو بجيفارا منذ مقتل الأخير ببوليفيا على يد بعض العملاء الأمريكيين، إلا على جسد مارادونا حيث احتل وشم لوجه كاسترو ساقه اليسرى، وتمدد جيفارا على ذراعه اليمنى.
****

بدأ اهتمام دييجو بالسياسة مع بداية حرب الفوكلاند، كان مارادونا حاضرًا باستعدادات الأرجنتين لكأس العالم 1982، وكان الجنود اللاتينيون يتجهزون بساحة القتال، كلاهما يعرق ولكن لعرقهم طعم مختلف. لم يشارك مارادونا بالحرب ولم ينضم للجيوش، وجاء بعد أربعة أعوام ليخوض حربًا من نوع خاص، النوع الذى يجيده ويبرع فيه، عندما راوغ نصف لاعبى الفريق الإنجليزى (العدو) محرزًا الهدف الأجمل تاريخيًا، وتبعه بهدف آخر مد فيه ذراعه لتدفع يده بلده نحو كأس العالم ونحو انتصار على المنتخب البريطانى. عندما سُئل دييجو إن كان قد أحرز الهدف برأسه أم بيده، أجاب “نصفه برأسى ونصفه بيد الله”، تبدو لى الجملة صالحة للاستخدام كأساس لفلسفة عامة، فكل ما نفعله، كل حياتنا، نصفها برأسنا ونصفها بيد الله. انتقم مارادونا من الدولة الغنية التى سلبت جزيرتهم، وقال إن المباراة كانت هزيمة دولة وليست مجرد هزيمة منتخب كرة، “بالرغم أننا أعلنا من قبل أن الكرة لا علاقة لها بالحرب، إلا أننا نعلم أنهم قتلوا العديد من أطفال الأرجنتين، قتلوهم كما تُقتل العصافير الصغيرة… وهذا هو انتقامنا.”
****
“إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء.. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصًبا لعارها في الفوكلاند.. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح انجلترا المغرورة الحرب مرتين.
ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة، مارادونا يعيد الجزيرة إلى الأرجنتين، وينبّه الإمبراطورية البريطانية إلى أنها تحيا في أفراح الماضي.. الماضي البعيد.”*
****
فى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، كان مارادونا جزءًا من الحملة الإنتخابية للرئيس والنجم اليمينى اللامع كارلوس منعم، وهو ما لا يتفق مع توجهات مارادونا السياسية التى سيتبناها لاحقًا على إثر العلاقة التى ستربطه بفيدل كاسترو، فقد عُرف صاحب أمهر قدم يسرى بالتاريخ لاحقًا بميوله اليسارية وتأييده المستمر لصديقه كاسترو وكذلك الزعيم الفنزويلى الراحل هوجو شافيز، “أنا أؤمن بشافيز، أنا شافيزى، كل شئ يفعله فيدل، كل شئ يفعله شافيز، هو الأفضل بالنسبة لى”. ولذا لم يفوت شافيز فرصة استغلال شعبية النجم الأرجنتينى عندما دعاه لافتتاح بطولة كوبا أمريكا فى فنزويلا فى 2007.
لم يتوقف دور مارادونا عند حدود قارته بل امتد نفوذ الأرجنتينى وشهرته إلى النصف الآخر من العالم، فدعاه الحزب الشيوعى الهندى لزيارته بعد فقدانه عدد كبير من المقاعد البرلمانية عام 2009، تمت دعوته لمقابلة جيوتى باسو، رئيس الحزب الماركسى، وافتتاح عدد من الملاعب الكروية، كانت الدعوة مصحوبة بصورة تجمع جيوتى باسو بفيديل كاسترو من أجل اقناع مارادونا وتحفيزه لقبول الدعوة.
زاد اهتمام ماردونا بالقضايا السياسية فى سنوات اعتزاله، فهاجم بابا الفاتيكان وقال جملته الشهيرة “لقد ذهبت إلى الفاتيكان وشاهدت السقف الذهبى، ثم سمعت البابا يتحدث عن اهتمام الكنيسة بالأطفال الفقراء، إذن، بع السقف، افعل شيئًا يا رجل.”
كما لم يترك مارادونا فرصة إلا وهاجم الولايات المتحدة وسياساتها اللاإنسانية، أيد إيران فى عهد أحمدى نجاد ضد الهيمنة الأمريكية، وخرج فى عام 2005 بمظاهرة رافضة لزيارة بوش للأرجنتين مرتديا تى شيرت كُتب على صدره (أوقفوا بوش) واصفًا إياه بالمزبلة البشرية. ووقف ذات يوم مرتديا الكوفية الفلسطينية ورافعا علمها فوق رأسه، سمعته يقول “إحنا ولاد الكلب الشعب، إحنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب، والضرب ببوز الجزمة وسن الكعب.” قلتها بالعربية وقالها بالأسبانية، ثم همس فى أذنى أنه يحب القصيدة، ولكنه لا يحب الأبنودى، كما لا يحب بيليه.
***
بعد ساعات من وفاة كاسترو، نشر مارادونا على صفحته الشخصية على الفيسبوك صورة قديمة تجمعه بالرئيس الكوبى السابق وهو يرتدى بدلته العسكرية ويضع يده فوق كتف مارادونا الذى ينظر إليه بابتسامة يملؤها الإعجاب، أو ربما الانبهار… ليس سهلا أن تُبهر شخصًا خاض كل طرق الحياة مثل مارادونا، إلا أن كاسترو قد فعل، بأفكاره وأقواله الحكمية ولحيته الخشنة البيضاء وسيجاره الشهير. كتب مارادونا بجانب الصورة “مات صديقى، المؤتمن على أسرارى، الرجل الذى طالما نصحنى، الرجل الذى اعتاد أن يتصل بى فى أى وقت لنتحدث عن السياسة، كرة القدم، والبيسبول، الرجل الذى قال لى عندما ذهب كلينتون أن القادم أسوأ، وقد كان بوش. كالعادة لم يخطئ أبدا. بالنسبة لى كان فيدل، ومازال وسيظل، باقيًا إلى الأبد، الوحيد، الأعظم. إن قلبى ينزف لفقدان العالم للرجل الأكثر حكمة على الإطلاق.”
****
“يدخل الملعب كأنه داخل إلى كنيسة، يغربل الدفاع ويهدّف، نجم هذا العصر، لن يجد الأطباء دمًا في عروقه، سيجدون وقود الصواريخ، يمر كالهواء عبر المساحات الضيقة، ملك الكرّة المتوّج الذي قال: سجلت الهدف الأوّل في مرمي الإنجليز بيد الله ورأس مارادونا. “*
****
فى عام 2000، قررت الفيفا أن تخصص جائزة لأفضل لاعب كرة قدم فى القرن العشرين، وقررت المؤسسة الدولية أن يتم اختياره عن طريق تصويت جماهيرى واسع، فاز مارادونا فى التصويت بنسبة 53.6 %، بينما أقرب منافسيه كان بيليه الذى حصل على 18.5 % فقط من الأصوات.
انزعجت الفيفا من تلك النتيجة، فبيليه مساند دائم للفيفا ومسئوليها بعكس مارادونا المعارض على طول الخط. طلبت الفيفا من مارادونا فى ذلك الحين أن يتقاسم الجائزة مع جاره البرازيلى الأسمر، إلا أنه رفض وقال إن الناس صوتوا له، وأنه لن يتقاسم الجائزة مع أى شخص آخر.
قبيل الاحتفال بأيام قليلة، وبشكل مفاجئ أعلنت الفيفا عن استحداث جائزة أخرى لأحسن لاعب يختاره المختصون عبر لجنة للتحكيم، فاز بتلك الجائزة بيليه بفارق شاسع عن مارادونا الذى حل خامسا بعد أن فصلهما كرويف، وبيكنباور ودى ستيفانو على التوالى.
يبدو لى هذا المشهد معبرا عن الفارق الأساسى بين مارادونا وبيليه، مارادونا الصعلوك، صاحب النزوات، المثير للجدل، مشعث الشعر، سليط اللسان، البعيد عن المناصب، وبين بيليه ذى البدلة الكاملة ورابطة العنق الأنيقة، صديق الفيفا، وزير الرياضة السابق، والمتهم فى قضايا فساد مالى.
مارادونا بطل شعبى يشبه الناس بكل عيوبهم وبكل تلقائيتهم، تكرهه الفيفا وتضطهده، والثانى يشبه السلطة، بكل إدعائها وصلفها. كان دييجو نصابا وطنيا فى كأس العالم 86، وكان فيلسوفا متدينا عندما قال أنها يد الله، ومظلوما باكيا بكأس العالم 1990، وهو أيضا المنكسر والمقاوم والفنان الفردى المنتصر للموهبة، الذى يشحذ حماس الناس لتشجيع شخص يشبه ملامحهم وأخطاءهم وانفعالاتهم، فيدك حصون الفرق ويواجه سدودها منفردًا هادمًا نظرية أن الكثرة تغلب الشجاعة – أو الحرفنة-.
عبّر مارادونا عما يميزه عن بيليه عندما قال “بيليه هو صديق من يديرون كرة القدم، أنا لست صديقهم، أنا مع اللاعبين.” وكما يليق ببطل شعبى فهو خفيف الظل، سليط اللسان، شتّام، وحاضر البديهة. عانى بيليه كثيرًا من التلاسن مع مارادونا عند تعليق الأخير على آراء الأول، ففى مرة قال “على بيليه أن يعود إلى المتحف.” وفى أخرى قال “يبدو أن بيليه قد تعاطى دواءً خاطئا. أنصحه أن ينتظم بأدويته قبل أن يبدى أى آراء أخرى.”، ولم يتوقف عن مهاجمته إلا بعد صلح تأخر لعقود.
عندما استضاف الممثل أحمد فهمى مارادونا فى لقاء قصير بأحد البرامج قبيل كأس العالم الماضى، أخرج له الممثل صورة أحمد عدوية من جيبه وقال له إن البعض فى مصر يعتقد أنه يشبه هذا المغنى، نظر مارادونا إلى الصورة متعجبًا وقال “لا… بالطبع لا.” إلا أن بالتأكيد شيئًا ما يجمع بين ملامح مارادونا وملامح عدوية، شيئا بسيطًا ومحببًا إلى النفس، شعبويًا ربما، ولكنه جذاب.
كان دييجو قصيرًا وممتلئًا بجسد لا يشبه أجساد بيليه أو بيكنباور، أقرب إلى جسد عدوية أيضًا، لا يخضع مارادونا لقواعد القوام الرياضى، لا يخضع لأية قواعد، ولا يصلح للعمل كمدرب أو إدارى، فهو يكره النظام والالتزام، يميل إلى التمرد، الفردية، وكسر القواعد، بل تحطيمها. ظلت تلك الصورة التى رسمها مارادونا للشخصية الأرجنتينيه مثارًا للجدل حتى يومنا هذا. كتب عبد الكريم الشطى ضمن ما كتب عن زيارته للأرجنتين فى 2014 فى مجلة العربى، أن عليك توخى الحذر قبل التعبير عن رأيك في ثلاث شخصيات عندما تكون فى الأرجنتين، مارادونا، وايفيتا، ومغنى التانجو كارلوس كارديل، حيث أن الخلاف بشأنهم حاد وعنيف. فأغلب الطبقة الأعلى والأغنى أو ذات التوجه اليمينى تكره مارادونا والصورة التى يمثلها، فى حين أنه بطل خارق وربما قديس عند عامة الشعب، الفقراء، والطبقات الشعبية.
****
“مارادونا لا يسأل غريزته. سقراط البرازيلي هو المفكّر المشغول بتأملات ميتافيزيقية حول الضربة الركنية. وزيكو يلاحق كابوس ضربة الجزاء، التي طارت من الملعب فطارت البرازيل من الحلم. وبلاتيني يُحسّن شروط التقاعد. وبيليه الخبيث يُجاهد لإخفاء الشماتة التي تصيب الملوك المخلوعين، ولكن مارادونا يعرف شيئا واحدًا هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه وكونه. “*
****
تغيرت كرة القدم، تبدلت طرقها، وتراجعت المهارة أمام القوة، وظهر ميسى وبزغ نجمه. يقول البعض أن الانحياز لميسى ضد رونالدو، مثله مثل الانحياز لفيدرير ضد نادال، هو انحياز للجمال فى مواجهة القوة، للموهبة فى مقابل الفتوة، للمتعة فى مواجهة القبح… قد أتفق مع منطق هذه النظرة، تحديدًا فيما يخص فيدرير ونادال، إلا أننى لا أستغرب من مؤيدى الفريق الآخر، فالنموذج الذى يقدمه نادال أو رونالدو، المعتمد على موهبة عادية، لا ليست عادية، فالموهبة بطبيعتها غير عادية، ولكننا قد نقول موهبة متكررة أو من طراز منتشر، غير فذة، مدعومة بإصرار وقوة لافتين، هو نموذج جذاب للبشر العاديين الذين يريدون التصديق بأنهم قادرون على الوصول إلى القمة ومقارعة أكثر الموهوبين رغم عاديتهم… إنهم يشجعون في ذلك النموذج أنفسهم، فهو نموذج قادر على بث الأمل فى نفوسهم، عكس ما يمثله مارادونا وميسى من هبة إلهية خارقة، وربما غير إنسانية.
إلا أن ميسى يستحق نظرة من زاوية أخرى، فهو لا يمثل الموهبة فقط، بل إنه يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا. فشل ميسى فى كل المناسبات التى مثّل فيها بلاده، لم يقدم مع الأرجنتين نصف ما قدمه لبرشلونة، لا أتكلم هنا عن النتائج، ولكنى أتكلم عن الأداء والحماس والعرق. أو كما قال مارادونا “عندما اشاهد ميسى مع منتخب الأرجنتين، أعتقد أنه سويدى جاء ليلعب معنا.”
ميسى يلعب فى المنتخب بلا روح، ليس قائدا فى الملعب وغير قادر على بث الحماسة فى فريقه. حاول بعض اللاعبين تأدية دور القائد نيابة عن ميسى، ماسكيرانو مثلا، لكن واقع الحال الذى يجعل من ميسى فى أعين الجميع المتحكم الأول فى أداء المنتخب، يقلل من قيمة حماسة ماسكيرانو أمام برودة ميسى.
مازلت لا أرى لمارادونا منافسًا كأفضل من لمس الكرة، سواء فاز ميسى بكأس العالم أو لا.. ربما مايزيد الفارق ويوسع الهوة هو شخصية مارادونا، روحه وقتاله. ورغم أن مارادونا يعتبر من أول اللاعبين المحترفين فى العالم، إلا أن سلوكه لم يكن احترافيا قط، كان متمردًا، لم يلتزم بالقواعد، ولم يلعب لأغنى الأندية، وظل يقدم لمنتخبه كل شئ، لا يخشى على قدمه التى تساوى الملايين، ويظهر فى أحسن حالاته بفانلتهم… أما ميسى فهو نموذج للأداء التجارى، الذى يرفع من قيمة النادى، ولى النعمة، صاحب رأس المال، ويقدم له كل شئ، مهمشا المنتخب. من هذه الزاوية قد نرى ميسى نموذجًا للانتماء لرأس المال، نموذجًا للاحتراف الكامل، للخضوع لهذا العالم المادى، الفاقد لأى قيمة عاطفية منسحقًا أمام الشهرة والمال، للموهوب الذى يوظف مهاراته لمن يدفع أكثر، يلعب بجمود، فيقوم بالمهمة الموكلة إليه كموظف متمكن، ببرود، دون شغف، دون حماس، دون قلب، دون أن يصبح أبدًا مارادونا.
****
” فراغ الأمسيات يتقدّم منّا كطبل من حديد، فنحن لا ننتظر أحدًا.. سنجر الخطى الثقيلة في اتجاه بيروقراطية النفس والوقت، وسنضطر إلى قبول مواعيد أخرى، نستعيد فيها الثرثرة اليومية حول المناخ، والعنصرية، والحروب الأهلية.
وسنتذكّر، لنسهر أكثر، عصرًا ذهبيًا عاصرناه: العصر الذي حلّ فيه مارادونا ضيفا على لهفتنا، فأقلعنا عن كل شيء لنتفرغ لما مسّنا من طقس: محبة مارادونا، وتسييج قدميه بفضاء الرحمة، والقفز على الشاشة لفك الحصار الألماني الثقيل، الذي يسد الهواء على توتر عضلاته، وهجاء الحكم البرازيلي، الذي كسر قلب مارادونا، كما يكسر الرجل الغليظ القلب قلب طفل بريء.. لا لشيء إلا لأنه يغار من عبقرية الطفولة.”*
****
مقال منشور فى أخبار الأدب عام 2018، *فقرات من مقال محمود درويش عن مارادونا.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت