اليوسفي الذي أحب الوطن حيا وميتا !

اليوسفي الذي أحب الوطن حيا وميتا !

- ‎فيرأي, في الواجهة
243
0

 

      كثير من الوافدين على ميدان السياسة ببلادنا يجهلون أنه ليس من السهل حب الوطن والانتماء إليه، لاسيما في ظل هذا الزمن الرديء الذي طغت فيه المادة على المبادئ والقيم، لما يتطلبه هذا الحب من صبر ومثابرة ونكران الذات. وما يحتاج إليه الوطن من إرادة سياسية قوية وتضحيات جسام في إرساء أسس الديموقراطية والنهوض بأوضاعه ومستقبل أبنائه. إذ في سبيل رفعته ناضل العديد من الشرفاء، منهم من قضى نحبه ومنهم من مازال ينتظر، وهم ثلة من الزهاد الأوفياء الذين كانوا ومازالوا غير معنيين بالمناصب والمكاسب، هاجسهم الكبير هو بناء وطن حر، تسود فيه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويتسع صدره لاحتضان جميع أبنائه بدون إقصاء أو تمييز…

      ومن مكر الصدف أنه قبل أن تخبو نيران الغضب التي أشعل فتيلها القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، الوزير السابق وعمدة العاصمة العلمية ادريس الأزمي الإدريسي،  بمجلس النواب يوم 13 أكتوبر 2020 وامتد لهيبها إلى خارج أسواره في البيوت والمقاهي ومقرات العمل والفضاء الأزرق، حيث أنه تجرد من أي حس بالمسؤولية وحول المؤسسة التشريعية إلى منصة لإرسال القذائف الحارقة ليس في اتجاه أعداء الوطن وحماية مصالحه الحيوية، وإنما دفاعا فقط عن معاشات البرلمانيين وامتيازاتهم المتعددة، التي ما انفكت تستنزف ميزانية الدولة، وأبى إلا أن يهاجم المؤثرين الاجتماعيين، ومن خلالهم كافة المنتقدين لسياسة البؤس بلغة سوقية، أساءت إلى صورة “ممثلي الأمة” وسمعة البرلمان، إلى الحد الذي بات معه الكثيرون يشككون في سلامته العقلية…

      فإذا بنقطة ضوء تنبعث من بعيد البعيد، من ذلك العالم الآخر الذي سنرحل إليه جميعا دون استثناء، سواء كنا فقراء أو أغنياء، ضعفاء أو أقوياء، وهي ذلك القبس المتمثل في وصية الوزير الأول السابق والكاتب الأسبق لحزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” الأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله، التي انعكس بريقها على سطح الأحداث لتلقن عبدة “الدرهم والدينار” من المتاجرين بالقيم الدينية، الذين جعلوا من السياسة جسرا للعبور نحو الاغتناء الفاحش وتحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة، درسا بليغا في معنى الشهامة وروح المواطنة. وتؤكد لهم بالملموس على أن الوطنية كمفهوم أخلاقي نقيض كل أشكال التهافت والانتهازية، التي يحاول بعض ضعاف النفوس تبريرها بما لا يبرر وبما لا يقبل به كل ذي عقل وقلب سليمين. والوطنية ليست في ترديد اسم ملك البلاد خلال اللقاءات الحزبية والتصريحات الإعلامية، بل في تقديم المصلحة العليا للوطن وأبنائه على مصالح الفرد والجماعة، والأحزاب السياسية والتنظيمات الدعوية، وفي السهر على نشر قيم الخير والقناعة والصدق والأمانة والاستقامة والنزاهة والزهد والعفة، عوض تكريس ثقافة الكراهية والتحريض على العنف وبث بذور الفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

      وكأننا باليوسفي الذي وافته المنية في 19 ماي 2020 عن عمر يناهز 97 سنة بعد تدهور حالته الصحية، اختار في ظل الجدل القائم حول معاشات البرلمانيين والظروف العصيبة التي تمر منها بلادنا جراء تفشي جائحة “كوفيد -19” وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية القاسية، يردد من قبره مع مارسيل خليفة رائعته التي تقول:

            إني اخترتك يا وطني حبا وطواعية

           إني اخترتك يا وطني سرا وعلانية

 فهو بذلك أراد أن يكون نموذجا يحتذى حيا وميتا، ويشكل قدوة لجميع أبناء الوطن من السياسيين وأشباه السياسيين وغيرهم، لأنه كان يدرك من خلال تجربته الغنية بالتجارب والمحن أن الوطن بحاجة إلى نماذج إيجابية من القادة والمسؤولين في مختلف الميادين، الذين يتعين عليهم مضاعفة الجهود في اتجاه ترسيخ القيم الفاضلة وحب الوطن في عقول وقلوب أبنائه وجعلهم كثيري الفخر والاعتزاز به والانتماء إليه، والحرص الشديد على عدم التزحزح قيد أنملة عن مبادئهم وقناعاتهم مهما تعددت الإكراهات والإغراءات، والعمل من مختلف المواقع على إشاعة العدل والمساواة ومحاربة الفساد والريع. 

      ترى ما الذي تحمله وصية اليوسفي التي تفاعل معها المغاربة من كل الأطياف بشكل لافت وثمنوا عاليا مضمونها؟ إنها إجراءات قانونية موثقة، توصي بأن: “تتصرف زوجته هيلين في ما تركه إلى حين انتقالها إلى جوار ربها، وبعدها تتحول الشقة بكل محتوياتها من أثاث ووثائق وكتب وصور ومذكرات وهدايا إلى متحف مفتوح للزوار… وينقل إرثه المادي من الأموال المتبقية في حسابه البنكي إلى مؤسسة متاحف المغرب” فأي شفافية، وأي نزاهة، وأي نظافة يد أكثر من هذا الذي كشفت لنا عنه هذه الوصية الفريدة؟ ثم أي نبل سياسي هذا الذي اتسم به الرجل في حياته ومماته؟ 

      إن وصية سي عبد الرحمان الذي عرف بنضاله الحقوقي والسياسي المتواصل، ومقاومته الشرسة للمستعمر الغاشم ومعارضته للنظام إبان العهد البائد، والذي خبر حياة السجون والمنفي وحوكم غيابيا بالإعدام، ومع ذلك قاد التناوب التوافقي بشجاعة وساهم في الانتقال السلس للعرش بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني وتولي ابنه محمد السادس الحكم بعده، هي رسالة وطني غيور أحب وطنه بصدق وعمق، ليس طمعا في منصب ولا مكسب ولا بحثا عن شهرة أو معاش استثنائي خرافي، وإنما من أجل أن ينعم أبناء الشعب بالحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية. وهكذا هم الرجال الكبار الذين يصنعون التاريخ ويخلدون أسماءهم في سجلاته بمداد من الفخر. فما رأي الذين يرفضون خدمة الوطن ب”البيليكي”؟

اسماعيل الحلوتي

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت