يوسف العيصامي
تضمن الخطاب الملكي لافتتاح السنة الأخيرة من الولاية التشريعية الحالية، عدة رسائل أساسية وعاجلة، تستوجب التوقف عندها، والحرص على استنباط دلالاتها بدقة وعناية متناهيتين. ويُلاحَظ أن جزء من هذه الرسائل موجه إلى البرلمانيين، وجزء آخر موجه إلى الحكومة، وجزء ثالث يكتسي طابعا أفقيا، حيث يهم الدولة بمختلف مكوناتها.
ومن أبرز مضامين الخطاب المذكور، الدعوة الصريحة التي أطلقها جلالة الملك، وهو رئيس الدولة وضامن استمرارها وحامي الحقوق والحريات، لمراجعة عميقة لمساطر وكيفيات التعيين في المناصب العليا للوظيفة العمومية، وذلك من أجل جذب الكفاءات الوطنية، وضخ موارد بشرية مؤهلة في مفاصل إنتاج القرار الإداري.
وتكتسي ضرورة إصلاح مساطر التعيين في مناصب المسؤولية (كرؤساء الأقسام ورؤساء المصالح …) والمناصب العليا (الكتاب العامون للوزارات، رؤساء الجامعات، عمداء الكليات ومدراء المدارس والمعاهد العليا، المدراء المركزيون والترابيون…) أهمية مضاعفة وذات حساسية، عندما ترتبط بقطاع التعليم العالي. فالعديد من الملاحظين (الممارسون، الطلبة، الإعلاميون …) لأوضاع هذا القطاع الاستراتيجي، مجمعون على وضع تشخيص سيء ومخيف، يتضح، من خلاله، أن الجامعة انحرفت عن أداء وظيفتها الوجودية المتمثلة في إذكاء البحث العلمي والتربية ونشر قيم التسامح وتكافؤ الفرص، وأضحت مشتلا لولاءات ضيقة تهدد اللحمة الوطنية.
لقد أشارت العديد من المتابعات الصحفية والكتابات الصادرة عن باحثين جامعيين إلى أن توظيف العديد من الأساتذة الجامعيين الجدد، يرتكز على أساس المحسوبية الحزبية، وفي حالات عديدة، يتم استحضار الاعتبارات الاثنية والعرقية والفئوية.
وعلى غرار الاختلالات الخطيرة التي تشهدها عدة مباريات توظيف في هيئة الأساتذة الباحثين، أصبح الوصول إلى مناصب المسؤولية في الجامعة، وخصوصا رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ومدراء المدارس والمعاهد العليا، يتأسس على الولاء الحزبي الضيق. وفي هذا الصدد، تذكر مصادر موثوقة أن مسؤولين في أحزاب سياسية يتفاوضون مع مترشحين لمناصب عليا في المؤسسات الجامعية، لدعم ترشيحاتهم، مقابل خدمة أجندات حزبية محضة، من قبيل تعيين مقربين أو موالين أو أعضاء من الأحزاب في مناصب المسؤولية الجامعية، وكذا توظيف أساتذة جامعيين يدينون بالولاء لأحزاب سياسية أو لأذرعها الجمعوية.
إن الانتماء الحزبي حق دستوري لا جدال فيه، لكن تقديمه على الكفاءة يعتبر ممارسة غير أخلاقية، وسلوكا يتنافى مع المواطنة الحقة. ولأن الولاءات الحزبية أصبحت المعيار الجوهري في التعيينات الإدارية، ظهر نوع من النفور لدى كفاءات، يُشْهَدُ لها بالنزاهة والوطنية، وعزوف شبه شامل عن المشاركة في مباريات الولوج إلى المناصب الإدارية العليا، خصوصا في الجامعات والتي تحتاج، بصورة عاجلة، إلى مسيرين أكفاء لإنقاذها من الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه.
إن تكوين أطر الغد، في المجالات الأمنية والقانونية والتدبيرية والاقتصادية، يتم، أساسا، في الجامعة، فهذه الأخيرة هي التي تزود الدولة بالموارد البشرية التي ستتولى تسيير الإدارات، وإن لم يتم تدارك استفحال الولاءات الحزبية والفئوية الضيقة في تعيينات كبار مسؤولي الجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العليا وكذا الأساتذة الباحثين، فالنتيجة الحتمية ستكون طلبة جامعيين، ومستقبلا أطر إدارية (في مختلف الأجهزة الإدارية والأمنية وغيرها)، عديمي الكفاءة، ومتقوقعين داخل منظومة ولاءات ضيقة على حساب الولاء للوطن، بل ومشككين في قيم التسامح والتعايش، وربما غير مؤمنين بجدوى الدولة.
فهل سَتُسارع الحكومة، و من يهمهم الأمر، إلى الاستجابة للدعوة الملكية الصريحة ؟
أم أن إنقاذ الوظيفة العمومية العليا، وخصوصا في المؤسسات الجامعية، من حالة العجز وانعدام الكفاءة، يستدعي تدخلا عاجلا من الدولة لإعادة توزيع اختصاصات التعيين، نحو إرساء مزيد من التوازن، والحرص على انتقاء مسؤولين جامعيين لا يوالون، بصورة ضيقة، من عينوهم، وإنما يخدمون المصالح العليا للوطن.