كرونا والثعلب..

كرونا والثعلب..

- ‎فيرأي, في الواجهة
344
0

بقلم : عبد الجليل المعقول

   يقف فيروس كرونا كما لو انه شخصية مركبة في فلم سينيمائي تجمع بشكل درامي بين الاجرام ضد الانسان وبين مناصرة البيئة ، (التشبيه للصحافي بيرنار بيفو) : يختار ضحاياه بمتغيرة الزمن والقوة الجسمانية .ويسائل المعرفة في حدودها القصوى ليرفع من قيمة العلم كخط اول للمقاومة البشرية .يبطل شراهة الاقنصاد ونزوعه الفرداني فيما يسترجع الفرد احساسه بالانتماء الاسري والوطني .لقد وضع البشرية على خط التماس بين الموت والحياة بين قيم الفضيلة وقيم السوق بين علم يستقوي بالتقنية وبقدراته الاستشرافية وقوة الطارئ  المفارق للمعلوم والمتحدي للمكتسب الانساني .يرتدي هذا الفيروس خفاءه فيما يصنع خفاء اخرخارج مجاله الحيوي.

       هل جائحة كرونا  حدث طارئ فعلا ام هي ثمرة لمسارات خفية ؟ فالاكيد انها سياق للعبور من مرحلة زمنية استنفذت دورها او كادت ،الى مرحلة هي الان موضوع رغبة دون ان تكون محددة المعالم .بالتوازي مع هذا الحدث ،كبر السؤال في الاقتصاد والسياسة وفي العلم والتقنية والاخلاق ،سواء داخل البلد الواحد او على الصعيد الدولي .فاتجه النظر للدولة طلبا للقرار .

       للدولة الحديثة خبرة في صناعة القرار .خبرة استحضاره في الزمان والمكان المناسبين وخبرة توظيفه لرسم دائرة التجادبات والصراعات مع توجيه موازين القوى المتنافرة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة .قد تكون المعرفة (العلم على الخصوص) صانعة اوصنيعة  لمساراته .لكن من الصعب ان نجزم بالتلازم بين كمال المعرفة وصواب القرار .فالمعرفة الوفيرة او الدقيقة قد لاتصنع شجاعة القرار مما يجعلنا ندرك التباعد بين الاثنين : ان صعوبة القرار وضرورته في ان ، تكمن في اشتغاله فيما يعتري المعرفة من مظاهر اللايقين .ان القرار لا يكتسب قوته من المعرفة الكاملة (على اهميتها) بل يستمد هذه القوة من فراغات تلابس هذه المعرفة عينها.القرار قفزة في ” ما يجب ان يكون ” انه استجابة لنداء قيمي .لكن العمق الايتيكي والاخلاقي لهذا القرار قليلا ما يكون موضوع سؤال .

    لماذا نسال عن القرار السياسي في بعده الاخلاقي الان ؟ ربما يصدق الافتراض بان الازمة المجتمعية لكل دولة تجعل القرار السياسي امام ذاته.فلا يجد متسعا من الزمن لارتداء دهاء ما .الازمة( كالتي نمر منها الان) لها قوة الكشف عن السلوكات والمواقف التي تتحصن بالخفاء .وازمة كرونا في بعدها الدولي والمحلي ،تمنحنا فرصة الاقتراب من ظلال التمويه للبيرالية التي تتزين للسوق كل يوم رغم وحشيتها .فتصنع قرارها السياسي بدهاء ماكر،عبر تفاصيل البضاعة وتجديد الرغبة فيها واختزال المواطن في صفة الزبون . لهذا كثيرا ما يستحضر المفكرون رمزية الثعلب لوصف العمق الاخلاقي لهدا القرار .

مات ثعلب الحضيرة وانبعث الرمز :

تمتلك الرموز غنى في الدلالة وقوة في التاثير تكاد في كثير من الاحيان ان تضاهي مفعول الواقع نفسه ،بل قد تكون سبيلا لفهم هذا الاخير والكشف عما يحكمه من علاقات .الرمز مكون عضوي هام في تجربتنا الحياتية .وله حياة خاصة به يكتسبها بعد ان نشا في حضن واقعة معينة .يستمد من هالتها مبرر وجوده.وقد يتوارى الى حدود الموت اذا لم يبق لحضوره الوظيفي اي داع .وقد يعيش فيما وراء النسيان ينتظر نداء الحاجة .

في احدى مدن الفرنسية ( pontivy) وقعت حادثة قبل سنة من زمن كرونا (اي في 6-5مارس2019)هاجم فيها ثعلب حضيرة مخصصة للدجاج فلقي حتفه بفعل تكتل ضحاياه المعتادين واعتمادهم على سلاحهم المعتاد .ان استثنائية الحدث (انتصار الحيوان الاكثر جبنا والاقل ذكاء على الحيوان المعروف بذكائه ومكره) قد اثارت ناصية المفكرين لتحضر بدلالتها الرمزية في مقدمة المجلة المعرفية (  16_avril 2019:  Le nouveau magazine littéraire N ).لقد اتجه السؤال بحكم فرادة الحدث ،الى مراجعة القيم المرفقة بحكايات الطفولة، التي اعتمدت على رمزية الحيوانات ومنها الثعلب .فما وقع لهذا الاخيرهو تغيير لواقع كان قائما وخلخلة لبنية رمزية تستوطن ادب الحكاية وتلقي بظلالها على مجالات اخرى.هذا الحدث يسائل فلسفة السياسة على الاقل ،التي اشتغلت برمزية الثعلب .فهل مات الثعلب الرمز حين مات الثعلب الحقيقة ؟ 

ثعلب مكيافيلي لازال حيا : 

           بعد الازمة السياسية الكبرى التي رافقت واقعة )11 شننبر(2001 بالولايات المتحدة نجد المفكر دريدا يدعونا الى تذكر تعلب مكيافيلي .يرفض نسيان/ موت هذا الرمز لانه اذاة لاستكناه البعد القيمي للسياسة او وسيط للتساؤل عن العمق الاخلاقي لقرار الدولة  الحديثة ( (le monde 2004  .

 فان كانت السياسة تنبني على واقع التعددية الانسانية  وتتجه وظيفيا نحو تدبير ما يصدر عن هذا الواقع من اختلاف ضمن فضاء عام وعلى قاعدة المأسسة لافعالها الاجرائية ( حنا ارنت).فقد تنحرف عن معناها كلما اتسمت بالتعالي عن الكثرة البشرية وزاغت عن كل تعاقد يدبرعمقها الاختلافي والانساني .

   في رمزية الثعلب قد نجد ما يساعد على كشف طبيعة مقاصد الدولة الحديثة وما يتخللها من اعطاب اتيكية محتملة رافقتها في النشاة والطور : في كتابه “الامير “اسدى المفكر الايطالي مكيافيلي نصيحة للدولة الحديثة توجه تدبيرها للشان العام .ولقد اختارت  منذ ذلك الحين العمل بهذه النصيحة في تدبير شؤونها الخاصة بل وشؤون العالم بعد ان اصبحت الاقوى .والنصيحة ان يعمل كل متدبر للشان العام على الاحتذاء بالاسد حينا وبالثعلب حينا اخر .يزاوج بين القوة والدهاء او بين العنف والمكر .فالاسد رغم قوته لا يستطيع حماية نفسه من الاشراك والثعلب لا قوة له امام الذئاب .

ربما لازالت الدولة  تضمر ارتباطها بهذه النصيحة خاصة ، فتظهر اظافر الاسد من حين لاخر ضد كل قوة صاعدة ،فيما يختفي الثعلب وراء الاعلام المظلل واستهلاك الزمن حتى يتبخر الوفاء بالوعود وهو قصد صريح في توجيهات مكيافيلي. هذه الدولة تصنع ضياع الطبيعة وتقود البحث العلمي بمنطق اللوبيات الراسمالية .تفاخر بتعددية سياسية ودينية وثقافية كوجه لاختيارها الديمقراطي لتبرر تسلطيتها على الصعيد العالمي …. 

حين طرات الجائحة كانت الدول الغربية هي المؤهلة باافتراض مسبق،ان تجتاز الاختبار بنجاح منتظر .لكنها تاخرت في البدء و تغثرت في المسار. وانكسرت الانتظارات لتتحول الى اسئلة حول ضعف كان مستورا .ربما لن نجد الجواب في الاقتصاد الذي سقط في العطالة على الرغم من قوته العقلانية وانبنائه على التنافس والصراع واستشعار المخاطر .ولن نجده في الاجتماع مادامت   انظمة الحماية الاجتماعية والصحية والتعليمية لم تلتزم بوعودها فوضعت الشيوخ في اعلى قائمة الضحايا. في السياسة وعلى الرغم مما حققته الدولة الحديثة من مكاسب ديمقراطية فلا زال الراسمال يحدد زمن ردود فعلها ويرسم علاقاتها  بالبحث العلمي وبسبل التشريع وبطرق توزيع خيرات المجتمع.لقد اسقطت انتاجية الدواء في مهاوى الاتجار ومطارح الربح والخسارة .وتقلصت مساحات التسامح لصالح جغرافيا التمييز الاجتماعي والقومي والديني والعنصري القائم على اللون .لقد كان الثعلب يشتغل كضمير اخلاقي وسياسي كامن ،ولم  ينكشف الا لحظة الازمة.

       حين امتدت يد الجائحة الى مجالنا الوطني انفضح بعض من ملامحه .فبرزت المكانة المبعدة التي تخصص للصحة والتعليم والبحث العلمي .وانكشف ضياع الحقيقة من بين اصابع الاعلام لصالح ربح يتحقق بعدد الاتباع واتساع مساحة الانصياع . فلم يعد دهاء الثعلب خفيا حين حاورت التربية اهل السوق ،او حين لجات  المدرسة الى التقنية دون سؤال بيداغوجي .فضاع الدرس في ضجيج الشارع وانتصر الراي العفوي على الديداكتيك وسقطت غايات التربية في شرك التبضيع ولعبة الربح والخسارة ;واختزلت العلاقة التربوية في علاقة الزبونية والتبس الفارق بين الفنان والمهرج البديء بين العالم والمدعي واصبح الجواب سابقا للسؤال يرسم له ايقاع السير واتجاهه.لقد تجبر الزيف على الحقيقة واختلط الصمت المريب بصمت الحكماءولم يبق للتواصل الاجتماعي من اختيار خارج ثنائية الاطراء او الخصام ،قبول النصيحة او الجدل العقيم ،كشف الحميمي او انكشافه . انفضح الثعلب حين اختار التشريع وجهة مناقضة لحرية الراي او حين عطل وظائفه في حماية  الشغل والشغيلة .

كرونا التي بخاطري ،ليست ما يراه الطبيب كعدو اول او تتعقبه انابيب المختبرات ويخشاه العارفون ببطشه البيولوجي ويصنعون بانسحابهم شرك الحجر كاخر الطلقات .كروتا التي تهمني هنا هي تلك التي

 تسللت بخفائها ،من مجال البيولوجيا (الحيوانية او البشرية) لتظهر باثارها في مجال الاقتصاد والسياسة والمعرفة ولتسائل الدولة في قصديتها الايتيكية (بتعير بول ريكور ).كرونا الخفاء ادخلت الى حقل الاختبار سلما واسعا من القيم : فانطلق التنافس او الصراع بين القيم الانسانية وقيم السوق ،بين الفضيلة والبضاعة فينكشف التدافع حين اصدار الاحكام حول قيمة الاشياء ومعنى الافعال وقصديتها .

الدولة في عمقها الاخلاقي علاقة تنبني بعقد وتتجدد به وتخطو في الزمان بالوعد والوفاء .كرونا اختبار لها حين استهدف الجسد وانتهز العلاقة وثعلب ميكيافيلي يقتل القيمة ويفسد اجمل ما في العلاقة  :فضيلة الوعد والوفاء به .

 

 

 .

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت