الأوبئة.. محكيات فيروسية

الأوبئة.. محكيات فيروسية

- ‎فيفي الواجهة
301
0

بقلم : الكسيس بروكاس/  ترجمة : د. محمد آيت لعميم.

 

أيقظ فيروس كورونا، الاستيهامات القديمة ، حيث تختلط الاشاعات والروائح العنصرية الكريهة والقلق من الخطيئة. فالأمر شبيه بالمصائب التي أمطرت على المدينة في ” أوديب ملكا” ،أو على مصر كما ورد ذلك في العهد القديم.

ألهم وباء فيروس كورونا خيالا جمعيا وعنصريا : وهو ذلك التخيل الذي يصور الصينيين  آكلين للخفافيش في الحساء. هذه الصورة تذكرنا بخيال جمعي وعنصري  آخر، ولد مع ظهور السيدا (داء فقدان المناعة).  فحسب هذه الصورة سيمر الفيروس  عبر قرود الكامرون إلى الانسان من خلال علاقة جنسية.

طبعا، هذان التخيلان خاطئان فمن المحتمل أن تشتمل الخفافيش على الفيروس، لكن الصينيين لا يدخلونها ضمن نظامهم الغذائي. وبالمقابل  تستهلك الخفافيش في الحساء في جزرpalaos  في مكرونيزيا،(ولا وجود فيها لأية حالة اصيبت بالعدوى).

يبدو أن صورا لمدونة صينية وهي تتذوق هذا الطبق المحلي الخاص هي التي أطلقت العنان للإشاعة. نفس الشيء،فقد ثبت أن السيدا مرت عبر القرود إلى الانسان من خلال  جروح الصيد أو استهلاك لحوم الطرائد.

لكن هذه التخييلات ذات دلالة :فكلاهما يضعان الخطيئة في أصل الوباء. هناك فعل استهلاكي  ضد الطبيعة ويتسم بالحيوانية بكل معاني الكلمة، كلاهما يصوران المرض بمثابة عقاب  يحيق بالجماعة جوابا عن خطأ يقترفه فرد واحد أو بعض الافراد المتهمين بالحيوانية ،من هنا اثرهما العنصري. هذه القصص الخيالية العنصرية ستستفيد مع الأسف!  من انتشار هو الاخر وبائي.

فمنذ رواية ” الطاعون” لألبير كامو، و” الخرتيت ” ليونيسكو نعرف أن استعارة المرض تصف  بطريقة مضبوطة الطريقة التي تنتشر بها الايديولوجيات الفتاكة وما يواكبها من قصص خيالية تحض على الكراهية من ذهن إلى آخر  وتحول مالكيها إلى جلادين محتملين لأكباش  فداء معينين.

إن فكرة الخطيئة الفردية التي تجر الوباء على الجميع هي فكرة قديمة جدا. نجدها في ” أوديب ملكا”،لسوفوكليس ، ففي بداية المسرحية تظهر مدينة طيبة Thebes مستسلمة لوباء الطاعون ،وقد كان لزاما على أوديب أن يوضح السبب الذي من أجله ألحق اولمب هذه الكارثة بالمدينة ،ولم يكن السبب إلا  إياه .انه أوديب والخطيئة المزدوجة -قتل الاب وزنا المحارم- التي اقترفها دون ان يكون على علم بأي شيء. خطيئة مزدوجة انتهكت محرمين اساسين للمجتمع البشري ، يضاف اليها الخفايا الخاصة بالأسطورة. فقد قادت الالهة بطريقة تحكمية أوديب إلى انتهاك قوانين الناس. ثم بعد ذلك عاقبت المدينة كلها بسبب هذه الخطايا.

نفس الفكرة ،في العهد القديم، فقصة الابتلاءات التي طلبها موسى لتنزل على مصر ،يمكن قراءتها باعتبارها حكاية مخترعة لاحقا ،مبررة بذلك سلسلة الكوارث الطبيعية،بسبب جريمة فرد واحد، والتي وجد لها العلماء اليوم تفسيرات حسية:

الجفاف ،عدوى المياه بالعلق الاحمر ،تكاثر البعوض، وباء الليشمانيات.

في القصة التوراتية ،مقترف الجريمة البدئية هو فرعون ،الذي يعارض إرادة الله الحق رافضا أن يترك الشعب المختار أن يرحل عن مصر. وبتحوير أساس ،لم يرتكب فرعون خطيئة يتبنى فيها سلوكا حيوانيا لكنه سعى إلى فرض ذاته باعتباره ممثلا للآلهة المزيفة. فهل الاستكبار الوثني أكبر من الخطيئة البهيمية؟ على أية حال ،فالنتيجة هي نفسها ، فالشر ينزل على  الجميع.

نميل اليوم  إلى الاعتقاد أن العقلية التآمرية تعيش عصرها الذهبي بفضل شبكات التواصل الاجتماعي القادرة على نشرها فورا. فنحن نسيء  فهم  سلطة النقل الشفهي.في ربيع 1321، كان جنوب فرنسا فريسة لإشاعة تناقلت في مملكة ارغون:  وهي أن المجذومين المناصرين لليهود،هؤلاء الاخيرين كانوا تحت رعاية المسلمين في اسبانيا، كانوا يسعون إلى تسميم الساكنة المسيحية في اوروبا من خلال تلويث الآبار بالعدوى. هذا التخيل العصابي سيأخذه الملك جاك على محمل الجد. فعين لذلك مفتشا ، وأعطى أوامره كي يخضع المجذومون للمساءلة،وبالطبع أعترف هؤلاء…

هذه النظرية التآمرية بالرغم من بهرجتها القديمة،تجد في العصر الحديث مائة نظرية متساوية معها. وهكذا نجد على شبكة الانترنيت أخبارا تتهم بيل جيتس والأسماء الكبيرة في وادي السيليكون بأنهم احدثوا وباء كورونا للتقليص من ساكنة العالم

شبق المجذومين.

إن صورة المجذوم في العصر الوسيط أكثر غموضا مما يجعلنا هذا المشهد تعتقده.  فمن جهة ،ترى ساكنة العصر الوسيط أن الجذام يصيب اناسا لم يقترفوا خطايا كبرى،مثل الشاعر جون بوديل  الذي اصابته عدوى المرض في بداية الحرب الصليبية عام 1205.

والحال هذه ،ففكرة المصائب المرتبطة بخطيئة بهيمية تصمد من خلال أسطورة الشبق النهم للمجذومين ،فالنسبة إلى العصر الوسيط ،حيث الطب يجعل الأمزجة الجسدية والطبائع متشابهة ،فمن الطبيعي أن يتم التقريب بين نار المرض التي تنهش لحم المجذومين ونار الرغبة التي تلتهم الارواح. فشبق المجذومين هو اذن مضرب مثل،وان المنازل التي  يعيشون فيها تسمى الحافات  Bordes ( لوجودها  بجانب الطريق ليسهل عليهم التسول). وستكون في اصل كلمة Bordel )الماخور.

نجد صورة المجذوم الشبق في قصة Tristan et Iseut ،حينما اقتنع الملك مارك بكلام رئيس عصابة المجذومين، بأن يسلمهم خائنته Iseut لكي يعاقبوها :” انظر،لدي هنا مائة من أصحابي ،فهب لنا Iseut كي تكون لنا!  فالشر يثير رغباتنا. اعطها إلى مجذوميك ،فلن تكون لسيدة حياة اسوأ من حياتها. انظر فثيابنا الرثة ملتصقة بجروحنا التي ترشح”.

 

لكن لدى المجذومين الشبقين ،الرابط بين الخطيئة والعقاب مقلوب. فالشبق الحيواني لديهم ليس اصلا لمرضهم بل هو نتيجة. كما لو ان العلاقة بين الوباء والخطيئة ،الذي تكذبه الملاحظة،ينبغي الحفاظ عليها باية وسيلة.

مع ظهور الميكروسكوبات الأولى القادرة على جعل الباكتريات مرئية (عام 1668 بهولندا) ، ثم بعد ذلك مجيء باستور ، فقدت الأوبئة  أصلها  الفوق طبيعي. ومع ذلك هذا لم يضع حدا لأسطورة خطيئة أصلية  وللنظريات التآمرية ذات الصلة. مذاك لم تعد الخطايا غذائية ولا جنسية ،بل  أصبحت خطايا علمية ،هذه الفكرة موجودة في ادب الخيال العلمي القيامي للقرن 20 ، أو في العمل الكلاسيكي  “ان اسطورة  je suis  une  légende ” لريتشارد ماتيزون هنا أيضا الخطاطة تتكرر وتتعقد ففي رواية “البلاء  le fléau ” للأمريكي ستيفان كينغ ، أو مسلسل  ” العبور le passage “لجون كرونين ، يتعلق الأمر بعلماء متهورين بلا ايمان ولا قانون ،وهم يعبثون بفيروسات، اطلقوا العنان لأوبئة ستقضى على جوهر سكان العالم.

 

يمكن لهذه الفيروسات ان تحول المرضى الى وحوش… مصاصي دماء عند جوستين كرونين، ولأن هؤلاء الباحثين يهزؤون بأخلاقية مهنتهم يطلقون العنان لبلاء حول العالم  ،يحول ضحاياه الى مخلوقات خطاءة وعدوانية…. كما لو ان العرض الاول لهذه الاوبئة كان من اجل الايحاءات لقصص خيالية تقودنا دوما الى الخطيئة البدئية والى تعيين كبش فداء. كما لو ان الدراما كانت  متجذرة بعمق في اذهاننا عبر ملايين السنين من الافكار السحرية وانه كان من المستحيل ان نتحرر منها كلية.

أحد الكتاب وصل لها مع ذلك: وهو البريطاني H. G Wells. هذا الامر يحدث في نهاية رواية ” حرب العالمين” حينما اجتاح المريخيون الأرض رأوا انفسهم قد ابيدوا من طرف عدو غير متوقع ،فالفيروسات والبكتريات  التي تتكاثر فوق كوكبنا ،لم تستطع اجهزتهم العضوية ان تدافع ضدها ففكرة ويلز غير المتوقعة والمبنية علميا في الوقت نفسه،تأخذ بطريقة عكسية كل المحكيات التخييلية السابقة.

 

المرجع:Magazine Littéraire

Mars2020

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت