لم تكن الزهراء الكوش تعلم، إذ رفضت الزواج من السلطان، وآثرت لقب أمة الله، أن شهرتها بين الناس ستزداد، بعدما اشتهرت في البدء بكونها ناسكة متعبدة، تكثر من الصلاة والذكر والصدقة…
الزائر لجامع الكتبية بمراكش، سيلحظ دون شك بجانبه ضريحا صغيرا مغلقا ذا قبة بيضاء… ولا شك أيضا أن الكثير من هؤلاء قد يتساءل: من يرقد في هذا الضريح؟
من ووري ثرى هذا الضريح، امرأة عاشت في العصر السعدي، واسمها الزهراء الكوش… ناسكة متعبدة، آثرت أن تلقب بأمة الله العذراء، وبلغت في ذلك حد رفض عرض زواج من السلطان نفسه.
في هذا البورتريه… نقص بعضا من حكاية الزهراء الكوش، المرأة المغربية التي لقبت بـ”حمامة مراكش”.
نشأة ولية
هي ابنة أم ذات أصول فاسية، وشيخ اسمه عبد الله الكوش، عرف بمواجهته للبرتغاليين في تخوم أزمور، في عهد السلطان زيدان بن أحمد المنصور. تدعى الزهراء، الزهراء الكوش، ولدت نهايات القرن السادس عشر للميلاد.
كانت لعبد الله، والد الزهراء، زاوية في مراكش، تفرعت عن الزوايا الجزولية التي تنتمي لمحمد بن سليمان الجزولي، أحد أقطاب التصوف المغربي.
في هذه الزاوية نشأت الزهراء، حيث لقنها والدها وشيخها في الآن ذاته، تربية روحية وصوفية، وعلمها أصول الفقه والشريعة الإسلامية.
لم تكن الزهراء تعلم، إذ رفضت الزواج من السلطان، وآثرت لقب أمة الله، أن شهرتها بين الناس ستزداد، بعدما اشتهرت في البدء بكونها ناسكة متعبدة، تكثر من الصلاة والذكر والصدقة.
لم يكن الوحيد في ذلك… عبد الله كان ذا عقل راجح، واشتهر بين الناس بالصلاح، وبلغ مبلغا مشهودا بين أولياء الزوايا. لذلك، كان بيته، ومن ثم محيط الزهراء، يعج بالعلماء والفقهاء، والأولياء.
بعض المصادر التاريخية، تشير إلى أن جمال الزهراء كان باهرا لكنها تقابله بِوَرع استثنائي، فكانت بذلك أشهر متصوفات زمانها. ومع ما كانت عليه من جمال، رفضت مطلقا الزواج، لذلك اشتهرت باسم العذراء.
لن أتزوج… ولو كان الخاطب السلطان نفسه!
صيت والد الزهراء ذاع بين أهل مراكش، أيضا، بكرمه وسخائه. كان يطعم وفق بعض الروايات ألفي ومائتي شخص. ما بلغه من حب في نفوس المدينة، جعل سلطان الدولة السعدية آنذاك، زيدان بن أحمد المنصور، يتوجس منه.
في أثناء ذلك، مجالس عدة كانت تقيمها الزهراء للنساء، للحديث عن مزايا الجهاد. بلغ ذلك إلى علم القصر، فرأى السلطان بعد تفكير أن يطلب المصاهرة، كوسيلة ليأمن جانبه من الكوشيين.
كعادة سير حياة مثل هذه، سيتخلل ذكر الناس للزهراء بعض الأسطورة. المخيلة الشعبية في هذا الصدد كانت جامحة، فكثيرا ما تردد بأن الزهراء تتحول ليلا إلى حمامة تنشر السلام في مراكش وما جاورها.
تقدم السلطان لخطبة الزهراء… كان يمكن أن تقبل، فمن هذه التي سترفض عرض زواج من طرف السلطان نفسه؟ من هذه التي سترفض العيش في القصور المخملية؟ لكنها رفضت!
فانقلب السؤال: من هذه حتى تتجاسر على رفض الزواج من السلطان؟ هكذا، بلا شك، تساءل زيدان، فكان للأمر عواقب على الزهراء.
اعتقل السلطان الزهراء وسجنها… محنةٌ لم تنته إلا بتدخل مجموعة من الفقهاء والأعيان لدى السلطان، حتى يطلق سراحها.
أفرج السلطان عن الزهراء، لكنه دبر مكيدة للإجهاز على أملاك والدها تحت ذريعة التهرب من دفع ضرائب جديدة فرضها على الزوايا، فقام بنفيه إلى مدينة فاس.
تصوف امرأة
في ذكر الزهراء، يقول العلامة محمد بن أحمد الحضيكي، في كتابه “طبقات الحضيكي”:
“السيدة الفاضلة، الناسكة الصالحة، المباركة الزكية، الطاهرة الفالحة، السالكة مسلك الأخيار، المعمرة أوقاتها بالصلوات والأذكار، العارفة الكبيرة، التقية الشهيرة، كانت من أهل القدم الراسخ في العرفان، ومن أهل الولاية الظاهرة، كانت رضي الله عنها من أولياء الله المتبعين، والنساك الصادقين، العارفين، ولها قدم راسخة في ذلك”.
تقول بعض الروايات، إن النساء كن ذات يوم في موسم يقام بزاوية والد الزهراء بحومة الكتبيين، فإذا بصبي أراد أن يمتع ناظريه برؤيتهن، فما جاء في عقله إلا أن يلتحف ما التحفته النساء فيدخل بينهن.
ثم لما دخل الزاوية، عميت عيناه من حيث لا يحسب، فصار لا يرى شيئا، ورجع خائبا فاقدا للبصر، حتى تاب عن ذلك، فرد إليه بصره، بذلك، تقول بعض المصادر التي تؤرخ الواقعة، اعتقد بكمال الزهراء.
توفيت الزهراء الكوش عام 1027هـ، وووريت ثرى زواية والدها حيث يشخص اليوم ضريحها، ذو القبة البيضاء، بجوار مسجد الكتبية، بيد أنه مغلق ليس بمزار لأحد.
يقول الباحث الأنثربولوجي المغربي فريد الزاهي: “تقدم لنا التجربة الصوفية صورة أخرى من صورة هذه الثنائية التي نحاول اكتناه مدلولاتها. فالتصوف تجربة للتعالي والتجرد من الوسائط الطبيعية. لذا ليس من الغريب أن تتحول المرأة إلى كيان مقدس بدخولها التجربة الصوفية، التي من خلالها تتجاوز وضعيتها الدونية في التراتبية الوجودية”.
الزاهي يضيف أنه “يكفي في هذا المضمار النظر إلى القيمة التي اكتسبتها المتصوفة الأولى “رابعة العدوية” في الحقل الثقافي العربي لكي يتبدى لنا أن المستوى الرمزي كفيل بتحرير الاجتماعي من مقدماته ونتائجه، وقد عرف المجتمع العربي الكثير من المتصوفات اللواتي كن يتحولن إلى كيانات مجاوزة للذكورة والأنوثة زهدا وتعبدا ومجاهدة في النفس”.
المثال الذي تذكره المصادر على ذلك في المغرب هو: “الزهراء بنت الولي سيدي عبد الله الكوش”.
حمامة مراكش
لم تكن الزهراء تعلم، إذ رفضت الزواج من السلطان، وآثرت لقب أمة الله، أن شهرتها بين الناس ستزداد، بعدما اشتهرت في البدء بكونها ناسكة متعبدة، تكثر من الصلاة والذكر والصدقة.
كعادة سير حياة مثل هذه، سيتخلل ذكر الناس للزهراء بعض الأسطورة. المخيلة الشعبية في هذا الصدد كانت جامحة، فكثيرا ما تردد بأن الزهراء تتحول ليلا إلى حمامة تنشر السلام في مراكش وما جاورها.
رواية أخرى شفهية، تفيد بأن أولى كراماتها، حدثت إذ أرغمت على الزواج من السلطان، فتحولت يوم عرسها إلى حمامة، وأصيب السلطان بالعمى. وحتى يستعيد بصره، أتوا له بريشة من جناحها. هذا، طبعا، أمر تنكره المراجع التاريخية، إذ تؤكد أنها رفضت الزواج منه أصلا، كما ذكرنا سابقا.
العذراء، الزهراء الكوش، توفيت عام 1027 للهجرة، وووريت ثرى زواية والدها حيث يشخص اليوم ضريحها، ذو القبة البيضاء، بجوار مسجد الكتبية، بيد أنه مغلق ليس بمزار لأحد، مع أنه يثير كثيرا من الأسئلة في نفوس العابرين، حول هوية صاحب أو صاحبة ذاك الضريح.
المصدر/ دانية الزعيمي / موقع مرايانا