عبد الكريم ساورة
كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا عندما اتصل شاب من إحدى المدن النائية، ببرنامج إذاعي مباشر، كان مقدم البرنامج يتحدث بلحن عذب، ويتماهى مع كل المتصلين الذين يحكون قصصهم المتنوعة، المثيرة، والغريبة. حقيقة، الحياة بدون قصص الناس مجرد بيت مهجور.
سليم شاب يبلغ من العمر 22 سنة، من عائلة فقيرة، توفيت والدته وهو لا يتجاوز الخامسة من عمره، تزوج والده بسرعة، وهذه عادة جد متفشية في المجتمع المغربي، فالرجل منا لا تكاد رفيقة عمره تنهي الأربعين يوما على رحيلـها حتى تجده يبحث عن الخَلَفْ، وبالفعل ” نِعمَ الخلف ” لم يمر شهر واحد على مجيئها إلى منزل الزوجية حتى خيرت الزوج بينها وبين ابنه الصغير، ولأن الرجل بطبعه يميل إلى الشهوة أكثر من الحكمة فقد اختار الحل السهل، وهو طرد الابن من عشه الحقيقي، ولحسن حظ هذا الصبي، فقد تم ترحليه عند جده وجدته من أبيه، اللذان عاملاه للأسف معاملة جد سيئة كما كان يحكي في الهواء وعينيه تدمعان..
هل يستطيع الإنسان أن يهرب من قدره، وهل يقدر كل واحد منا على مواجهته ؟ هذا ما كان يطرحه سليم بنوع من التلقائية والبساطة ؟ سؤال بسيط ولكنه صعب الإجابة …
مكث سليم في بيت جده، سنة بعد أخرى، يعيش بين جدران البيت ككلب مجروب، لايطيقه أحد، منعزلا، يأكل وحده، ويتحرك وحده ويحدث نفسه، إنه نظام جديد للبقاء أكثر في هذه الحياة.
بتدخل، من أحد الجيران تم تسجيله في المدرسة ، فبدأ رحلة شاقة في التمدرس حيث كان يفتقد إلى كل شيئ، من أدوات وكتب وأقلام، ومن أجل مواجهة هذه المتطلبات بدأ في بيع السجائر مرة والأكياس البلاستيكية مرة أخرى، وفي الكثير من الأحيان كان يستهويه بيع الجرائد وهي فرصة للقراءة وفي ربط علاقات كثيرة مع المرتادين بالمقاهي المتعددة التي كان يتردد عليها بكثرة من أجل أن يستجدي عطفهم ويجزلون له العطاء، وهو مالم يتحقق له رغم كل المحاولات، وفي كل محاولة كان يردد نفس العبارة : لماذا الناس أضحت بهذه القسوة ؟
كانت عشر سنوات كافية ليأخذ سليم، لقب أمير الشوارع بامتياز، عندما وجد نفسه ذات مساء بارد خارج أسوار البيت بعدما تم طرده شر طردة، مند وفاة الجدة والتي كانت آخر خيط يربطه بهذه الشجرة الكافرة بولادته مند البداية . فقد أنقطع عن الدراسة، وأصبح يقضي معظم وقته بين الدروب والأزقة، وفي عز الليل يفترش الأرض تارة وقد يقضي ليله بين قمامات الأزبال تارة أخرى وهو يعاقر” الماحيا ” مع رفاقه المدمنين و أصحاب السوابق، حياة لها طعم خاص لايمكن لأي شخص أن يعرف ألا مها إلا مَنْ عاش مخاضها العسير.
كانت كل الظروف مواتية ليتحول إلى وحش الأزقة، ويعلن عن ولادة ” شمكار ” بكل المواصفات القبيحة” وهاهي الفرصة الآن أكبر لينتقل من بائع للعناوين الكبرى في الجرائد إلى تاجر صغير في الممنوعات بكل أنواعها، المخدرات، والعاهرات، والسرقات، والمتاجرة في تنقيل المهاجرين، أي شيء يمكن أن يصادفه في طريقه، يتحول بقدرته إلى مادة قابلة للبيع وبأي ثمن، وبدون أية رحمة، كانت كل الظروف تهيئه ليكون قابلا للإشتعال وحرق كل من يجده أمامه
وفي كل مغامرة كان يدخلها كان يحاول أن يبرر لنفسه بالقول، هناك قانون واحد يحكم هذا العالم، القوي يأكل الضعيف، ويكفي أنني ولدت بين أحضان أسرة ضعيفة، ومؤسسات هشة ومجتمع لايبالي بفصيلتي، ولهذا عَلَي أن أقود نفسي بنفسي ولو إلى الجحيم …
توقف، سليم دقيقتين عن الحكي، فكان يقول له المديع، مابك ياسليم مابك….وماهي إلا ثواني حتى سُمِعَ صوت نحيب، كانت لحظة جد مؤثرة، عندما قال بصوت خافت : أخطر إحساس يشعر به المرء، يا أستاذ وهو يخاطب منشط البرنامج، هو أن تشعر أنك أنْتَ، في لحظة معينة لست بِأَنْتَ….. عندما تشعر أنك لاتشبه أحدا، ولا أحدا يشبهك، وبأنك غريبا تماما عن كل شيئ يحيط بك، فما العمل إذن ؟ ما العمل ؟ وسط هذه الغابة الموحشة ؟
لا شك أن داخل كل واحد منا مهما تغير إلى الأسوأ، بفعل الظروف، فإنه يظل يحن إلى ذلك الصبي العفيف، الموشوم بالبراءة والنبل، والتمني بالرجوع إلى البدء، وكما يقال في البدء كانت الكلمة…. وهي التي كانت تقض مضجع سليم في كل مرة يختلي بنفسه، فيتذكر الدراسة والكتاب وأصدقاء القسم …
وفجأة تدخل المذيع، كإطفائي يريد أن يوقف لهيب النار المترامية الأطراف بأي طريقة وقال له هل أنت نادم ياسليم ؟ هل تريد العودة إلى أقسام الدراسة ؟ فرد وكأنه يتهيأ لوداع المذيع قائلا له : وهل لازال هناك من يستطيع التكفل بمتشرد مثلي يا أستاذ….فعم صمت مريب، ففهمت أن الخط انقطع …