|
*حسن إدوعزيز
ما كاد يترك “طوالة العوينة” وراءه، حتى أشرف على ساحة “الحسن الثاني”، ورائحة البن الشهية المنبعثة من “مقهى گنور” تنعش روحه على بعد أمتار قليلة. كانت هذه الساحة حديقة خضراء، لطالما لعب على عشبها الندي، واختفى بين ظلال شجيراتها، وهو لا يزال طفلا يافعا منتصف الثمانينات.. قبل أن تحولها مخططات المسؤولين إلى ساحة اسمنتية، تستقبل كل مساء خليطا من طقوس عجيبة تستهوي مرتاديها من أحياء المدينة ومن الدواوير المجاورة.
دخل الساحة، فوجد عالما من الهرج والصياح والكلام المبهم الذي تدفق من كل صوب وحدب. فبهذا المستنقع المنقوش، حلقات منتشرة هنا وهناك.. وهي تتوسط مجموعة من المحلات التجارية ومن المقاهي الشعبية.. يتقدمها متجر البيع بالجملة “أبي العلاء”، بائع المدينة المعروف، ومحل “با البشيري”، السفناج الماهر.. وغير بعيد، تبدو صومعة “مسجد الزاوية” صامدة تحرس المكان وأهله، يؤنسها ضريح “سيدي عبد الرحمان” مبدل الطفلة بالطفل، وحفيد ولي الاقليم الصالح “سيدي رحال الكوش دفين أرض زمران…
اقترب أكثر من المتحلقين، فلم ير غير البساطة التي عهدها، منذ صغره، على الوجوه.. والأفواه مفغورة بما يقوم به بعض “الحلايقية” الحذقة من مقالب، وهم يعرفون حتما أنها لن تنطلي على الجميع، لكن يكفيهم أن تنطلي على بعض المهووسين القادمين من الدواوير المجاورة ك “البانگة” و”النباگة” و”دريع العياشي” و”السويگية”…
اقترب أكثر، فاشرأب بنظره وراء المتجمهرين، ليلمح “الكرتال” الحكواتي، بقامته القصيرة، وبقايا أسنانه المنخورة، لازال، كما عهده، يصدح ب”بنديره” الجلدي وبكلامه البذيء.. وهو يحاول إضحاك زبنائه ممن يجودون عليه، بين الفينة والأخرى، ببضع الدراهم و”الربعادريالات”.. وغير بعيد..، يستلقي بعض الكتبيين.. باسطين منوعاتهم القديمة المختلفة أمامهم: بين مجلة العربي المزينة بصور حسناوات مصر والشام، وبعض الدواوين الشعرية القديمة، وقصص عنترة وعبلة ومجنون ليلى وسحر هاروت وماروت، ومتن الاجرومية وألفية بن مالك.. وغيرها مما جادت به ثقافة بداية التسعينات..، في منظر عجيب يتناسق وحركات أولاد “سيدي رحال البودالي” بمقراج الماء “الطايب”، وتعويذاتهم الغامضة.. يشربون منه الواحد تلو الآخر، جرعات متتالية، وألسنة النسوة تلهج حولهم ب”شايلاه آ مولا زمران”، وبعيون ساذجة حائرة بين التصديق والجحود..
تمشى مندهشا بين خليط هذه الساحة العجيب، كأنه يتجول وسط لوحة سريالية لواقع مؤلم.. قبل أن تسيح به قدماه جنوبا، باتجاه “زنقة العطارة”.. وخمارة “با حسن” لا تزال على حالها تسر القاصدين.. لكنه تمالك نفسه، وانعطف يمينا نحو “جوطية” المدينة . لتطالعه أكوام الفواكه من الليمون والتفاح و”الهندية”… وغيرها من غلات الخضر، التي كان يكفي الرجل درهم أو درهمان ليأخذ منها ما يسد به رمق عياله… من بصل وجزر وطماطم مشعة بشعاع شمس غروب المدينة الزاهي.. وباعتها يصيحون ويزبدون، كأنهم يحاربون الفقر: “لا غلا على مسكين”.. “قربوا”… “ها المليح”…
وهو يستمتع بصيحات هؤلاء الباعة تهز الزقاق المحاذي لمدرسة “المسيرة”، توغل حتى وصل عمق “الجوطية” الغاصة بالنساء والرجال من مختلف الأعمار والفئات بنهاية الشارع الرئيسي لحومة “جنان الشعيبي”، فوجد أكواما متناثرة من الملابس البالية هنا وهناك.. ورائحتها النفاذة تدل على مصدرها، قبل معاينتها للتأكد من علامة جودتها “made in italy”.. ليتوقف عند بائع بدين ذو لكنة “عروبية” أصيلة، يعتلي كرسيا خشبيا مهترئا قرب الصندوق الخلفي لسيارته “الڤولسڤاگن”.. وهو يصيح في وجه المارة والمرتادين الذي تجمهروا عليه ينقبون: “القميجة بميتين.. والسروال بمية.. وجوج قوامج بثلثميا.. من گاااال؟ ما گااال حد؟ لا غلا على مسكييين”…
انحنى ليأخذ قميصا جميلا وقع عليه إعجابه بين كومة الأقمصة داخل صندوق سيارة الڤولسڤاگن… وما كاد يعاينه حتى سمع منبه هاتفه يرن من بعيد.. فاستيقظ من نومه العميق مذعورا… لينظر إلى الساعة، ويجدها تشير إلى حوالي التاسعة صباحا وعشرين دقيقة، ويتأكد أن اليوم يوم عطلة.. فاغمض المسكين عينيه من جديد متمنيا لو عاد إلى حلمه الجميل الممزوج بالحنين، عله يتمكن من إكمال معاينته لذلك القميص الايطالي الجميل، ويكمل جولته بين ثنايا مدينته.. وأحس وكأن الزمن لم يعده صدفة إلى عشية ذلك المساء السحري، بل في وعيه بقايا حكي رمته عنوة في ضيافة تلك المدينة الزاهية بحجم وطن..، لم ينفلت من ذاكرته رغم عوادي السنين…
*أستاذ
|
|
|
|