بقلم: الدكتور محمد البندوري
يتطور مجال التطرف الفكري بتطور آلياته وأدواته، وينمو عندما يجد الفراغ في الساحة الفكرية والثقافية والفنية فينتشر حسب. ومما لا شك فيه أن عدم تطوير الخطاب الديني المعتدل وعدم ملء الساحة الثقافية والفنية بالإبداع والتجديد وعدم تطوير الخطابات السياسية وعدم تفعيل أدوات المجتمع المدنى الفكرية والاجتماعية والثقافية والفنية بالشكل الأمثل. كل ذلك يسهم في ترك المساحة فارغة ويقصي عمليات التنوير، وبناء الوعي.
وإذا كان التطرف يدل على عدم الثبات والابتعاد عن الوسطية والخروج عن المعتاد وتجاوز الحد والبعد عما عليه الوطن، فإنه يعني كذلك الاعتداء على العقيدة والفكر والسلوك. ولا شك أن المغالاة في أي شيء تكون نتائجه وخيمة فالمغالاة تؤدي إلى التطرف الذي هو بطبيعة الحال أ مسلك مدمر للفرد والجماعة ومدمر لصاحبه.
وبشكل عام فيمكن القول، إن التطرف هو الخروج عن القيم والمعايير والعادات الشائعة في المجتمع، وتبني قيم ومعايير مخالفة لها، أو اتخاذ الفرد (أو الجماعة) موقفاً متشدداً تجاه فكر أو أيديولوجيا سياسية أو عقيدة دينية، وبناءً عليه فإن هناك جملة من الأسباب تقود للتطرف، من أهمها:
– أن يشعر الفرد بالتهميش أو الإقصاء.
– الجهل والأمية والفساد والتشبع بأفكار متطرفة
- ضياع الأخلاق والتربية الصالحة والتوازن في الشخصية منذ الصغر
فيصبح عرضة للضياع ويصبح غير متقبل لآراء الآخرين، يتعصب لرأيه المنحرف عن الصواب، يتسم بالتحجر الفكري ويرى نفسه أنه على صواب وهو غارق في أعماق الخطأ، ويحاسب الآخرين على الصواب. وهذا هو الأخطر. لأنه أضحى محتاجا إلى عملية غسيل تام.
ما قمت بسرده الآن بديهي ومعروف لدى الجميع، ولكن ما هو الدور المنوط بكل واحد منا ومن هيئات المجتمع المدني إزاء هذه المعضلة؟
هل دور المجتمع المدني هو القيام بأنشطة ثقافية وفنية فقط؟ أم هناك خلفيات ومرامي وأهداف من تلك الأنشطة؟ ما الغاية ما تقوم به الجمعيات إذن؟
نرى كما هائلا من الجمعيات التي تنشط في الحقول الثقافية والفنية والرياضية، ونرى أن بعضَها يشتغل بشكل لائق ويؤدي مهامه أحسن قيام، بينما نجد بعضها يشتغل عشوائيا، وأن بعضَها الآخر يشتغل بدون برامج ولا أهداف، وبعضها وبعضها الخ .. لذلك أقول إن ثمة مسؤولية كبرى ملقاة على عاتق هيئات المجتمع المدني جماعات وفرادى، فكل مسؤول من موقعه لأن الجميع أبناء هذا الوطن الخالد. فمؤسسات ومراكز وهيئات المجتمع المدني هي وسیط ثقافي وفني واجتماعي وخيري ونهضوي وتوعوي وتعبوی بین الفرد والمجتمع والمواطن والدولة، وقيامها بهذه الوساطة مبني أساسا على قيم المواطنة الحقة وعلى روح المسؤولية والتطوعية الاختيارية. ومن هذا المنطلق فما تقوم به من أدوار يجعل أعمالها نبيلة وسامية. ومن تم يتحتم عليها أن تتحلى بروح المسؤولية تجاه عدد من القضايا، فهي لها دور أساسي في التأثير من خلال الأنشطة التي تقدمها، خاصة إذا كان لها تأثير قوي في استقطاب الجماهير وتأطيرها بالشكل الصحيح وبالوعي الكافي.
فكل نشاط يجب أن يبرمج وفق تصورات وأهداف تدحض الفكر المتطرف بطرق غير مثيرة للجدل، بمعنى أن كل نشاط يضمر في طيه الأهداف الحكيمة المتوخاة، خاصة وأن الجمعيات تتنوع في تصانيفها وفي أهدافها: فهناك الجمعيات الخيرية وهناك الجمعيات الثقافية والفنية وهناك الجمعيات الرياضية وهناك مراكز تنموية ومؤسسات بيئية وهناك العديد مما تتعدد تصنيفاته وأهدافه وفق تخطيطاته واستراتيجيته وبرامجه وخططه لتقديم أدواره في المجالات الفكرية والثقافية والفنية والاجتماعية وتأكید أحقية شراكته في البناء التنوي ثقافيا وفنيا واجتماعيا ومدى نجاعته في التأثير في السلوكات وفي التفكير بدءا من التخطیط إلى التنفیذ ثم التقییم. فهي تحتك بشكل يومى بالمواطنين ويمكن ا، تبدي قدراتها في التفاعل معهم وخاصة مع فئات الأطفال والشباب. ولعل من بين الأهداف التي يمكن تفعيلها داخل الأدوار الجمعوية:
- ترسيخ حب الوطن في نفسية الأطفال والشباب وحب كل المقدسات الوطنية، وربطهم بهويتهم وبالقيم الوطنية والروحية.
- تعليمهم تاريخ وطنهم: تاريخ الأمجاد واللحمة والقيم الإنسانية وحب الوطن، تاريخ العراقة والأصول والتراث المجيد، تاريخ البطولات ملوكا وشعوبا في وحدة موحدة، والتمسك بثوابت الأمة.
- تحرير المستفيدين من التعصب وابنوا شخصياتهم لتكون متوازنة
- يجب اكساب المستفيدين من الأنشطة روح العمل الجماعي والتآزر والتوافق والتماسك والتعاضد من أجل هذا الوطن ومن أجل الانسان
- علموهم من خلال الأنشطة المقدمة روح التسامح وتقبل الآخر
- يجب أن يتشبعوا بالأفكار المنيرة والأمل والحياة مهما كانت الصعاب هذه هي الرجولة وهذه هي الشهامة وهذه هي أن أسقط وأقف دون مؤثرات ودون شوائب.
- يجب أن تغرس الجمعيات من خلال أنشطتها روح الانفتاح وقيم التراضي والإرادة السلمية
- القيام بحملات توعوية وتثقيفية عن طريق الأنشطة المتنوعة وترسيخ دور المرأة والاسرة والشباب للحد من الفكر المتطرف.
- العمل الدؤوب على استثمار إبداعات الأطفال والشباب وتسخير ذلك لترسيخ قيم المواطنة الصالحة
فللأنشطة المتنوعة دور كبير في تمرير الخطابات المجدية وتقوية عرى التواصل ومحاربة الجهل والتطرف، حيث إن لهذه الأنشطة أهمية كبرى في تعديل البوصلة، وتغيير نمط التفكير وتحويله إلى الايجاب. فتشجيع المبادرات الفردية للأطفال وللشباب وتشجيع المواهب في المجالات الفنية والثقافية والتشجيع والتحفيز على إنتاج أعمال فنية وثقافية ومسرحية وغيرها يسهم في تفريغ الشحنات الداخلية وتحقيق الذات بل وتتيح إمكانيات للتواصل الواسع النطاق في قطاعات الطفولة والشباب، وهي تربية ضمنية على الاندماج الأمثل في مختلف القطاعات. فهذا يدخل في نطاق التنمية الفنية والثقافية البشرية، وهي تتضمن أبعاداً متعددة منها الوعي الفكري والثقافي والفني والديني في صفوف الأطفال والشباب، فيمكن للجمعيات أن تشغل أدواتها الفاعلة بتربية الأطفال والشباب روحا وعقلا وجسما وتقويمهم، وتنمي مواهبهم وتصون إبداعاتهم وابتكاراتهم واستحضارهم في التظاهرات الثقافية والفنية، فذلك بمثابة أهداف محددة يسعى الأطفال والشباب تحقيقها. وهي لما تكون بالموازاة مع الأنشطة التربوية التعليمية فإنها تؤتي أكلها مئة في المئة، ومن تم على الجمعيات الانفتاح على مختلف المؤسسات والمراكز التربوية والتعليمية.
لذلك فإن مؤسسات المجتمع المدني بتعدد مشاربها وتنوع أهدافها تمثل واقعا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وأنها تتواصل مع خزان من القيم والأفكار التي بنيت على مدى قرون من الزمن في بلاد التسامح والإيخاء. إذن فمن خلال ممارساتها التطوعية الخيرية والثقافية والفنية والرياضية والبيئية والاجتماعية يمكن أن تفعل أدوارها الوطنية وأدوارها المسؤولة والفاعلة في مختلف عمليات التنشئة الاجتماعية وتحقيق النظام والانضباط في المجتمع، وزرع حب الآخر في النفوس وضبط سلوك الأفراد والجماعات تجاه بعضهم البعض وتمرير قيم التعاضد والتآزر الهادف وتقوية بناء الأسس القويمة للمجتمع وتكريس ثقافة القيم والمبادئ بين الأفراد والسلوك المثالي وصدق الانتماء والولاء والتعاون والتضامن والقدرة على تحمل المسؤولية وتعزيز روح المبادرة بين الأفراد؛ ما يؤهل إلى الابداع والابتكار وصنع مساحة مهمة تعزز بناء قدرات المجتمع بصورة جامعة. والسعي القويم إلى بناء مجتمع مدني متحضر يقوم على مبادئ التطوعية والاستقلال الذاتي والمواطنة الفعالة والمشاركة القائمة على التوفيق بين المصالح الخاصة المتباينة من أجل الصالح العام، وقبول الاختلاف والتنوع؛ ما يقود إلى تجويد وتحسين رأس المال الاجتماعي باتجاه ترميم هيكلة البنى الاجتماعية وتنقية الفكر الشبابي من الشوائب، وتقديم الخبرات العلمية لممارسة الكيفيات لفهم الآخر وقبوله وإمكانية التعايش معه من منطلق الإيمان بالمواطنة والتعددية. وهنا يظهر دور الجمعيات لصالح التعددية والعلنية والاعتدال والتسامح والتعامل السلمي.
وطبعا فإن بناء هذه الأدوار الطلائعية تتطلب هيئات وجمعيات واعية وملتزمة بالضوابط القانونية ولها قدرات عالية على التسيير والتدبير المحكم وأن تكون لها القدرة الكافية على تطوير مهارات التواصل الإيجابي والحوار المبني على أسس منطقية وقيمية وأخلاقية، وأن تتوفر على المؤهلات الكبيرة والطاقات البشرية الكفؤة التي تمكنها من ممارسة أنشطتها بالشكل الذي يؤهلها لتلبية الحاجيات الضرورية وتفعيل مفهوم المواطنة ضمن منظور ديمقراطي ، و نشر ثقافة الحقوق ونشر الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي وتنمية الحس الوطني لسد الفراغات القاتمة وتعميق المشاركة المجتمعية بشكل واسع لتمثيل تلك الأدوار السامية في جو يسوده الاحترام والتقدير، بمعيار الاعتدال والتوازن، والإسهام الأمثل في عملية نشر الوعي والثقافة المتوازنة المعتدلة من أجل ضمان حريات وحقوق المواطنين وإعلاء مبادئ المساواة وإرساء العدل في الواجبات، وهذا بحد ذاته يكفل للدولة والوطن مستويات عالية من الأمن والاستقرار.