بقلم/ ذ محمد خلوقي
قراءة في حكمة الوسطية والاعتدال
١- قيمة الوسطية ومكانتها :
الوسطية منهج العارفين السالكين، والغُلو والتطرف منهج المنحرفين والتائهين، الوسطية ما كانت في الشئ الا زانته وما خلت منه الا شانته ، فالوسطية في القامة اعتدال غير مجروح ودونها طول او قزمية فيها عند اهل الذوق قول ونظر ، والوسطية بين البخل والإسراف كرم ممدوح ودونها عند اهل النظر سلوك مُنكر ، والتوسط بين التهور والجبن شجاعة يُقرها العقل والعرف بكل وضوح ، ودونها هي ممارسات لا تذكر .
الوسطية ان تأخرت او انعدمت أمطارها ، تجف حقول الاعتدال، وتبور قيم التسامح والتعايش ، وتُفْقَد ثمار الحب والتقدير والاحترام ، فتتشقّق من باطن الجهل والسفه ، بدلا عن ذلك ، اشواك من التطرّف والعنف وتتكاثر جراتيم السفك والسحل والقتل .
ان المتدبر في خلق الله جل علاه ،سيجد ان الاعتدال والجمال سر أودعه العليم الخبير في وسط كل تسيير وتدبير :فمثلا في تعاقب الفصول الأربعة ندرك ان جمال واعتدال طقسها وجوها لا يلمس في بدايتها او نهايتها ،ولكن في وسطها؛ وهو فصل الربيع ، رمز النضارة والصفاء والإشراق .. كذلك في النظر الى أعمارنا المقدرة ،مع تفاوت في نسب طولها وقصرها ، غالبا ما يدرك فيها النضج والاتزان مابين التلاثين والخمسين ، حيث رجاحة العقل ورزانة التفكير وبلاغة السلوك ..
بل حتى نار الطهي إن كانت متوسطة التوقد، سلم الطعام من الاحتراق ، وحافظ فيه على كل مكونات الفائدة والاتساق ،وحصلت به اللذة دون عنت او شدة . وانظر الى القلادة لا يتوسطها الا الاغلى ،كما ان المجلس الحقيقي لا يتوسطه الأدنى بل الأعلى علما ومعرفة ودينا،
وحين جعل الله الرسالة في أمة محمد عليه الصلاة والسلام وصفها في كتابه المحكم بالامة الوسط قال تعالى ( ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ً ) البقرة 143
وهذا النعت الدقيق يحمل كل معاني العدالة والخيرية والأفضلية ، ذلك أن الزيادة على المطلوب إفراط، والنقص فيه تفريط ،وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فالخيرية هي الوسط بين طرفي الأمر أي التوسط بينهما.فالأمة وسطية في تصورها واعتقادها بين الروح والمادة ، وبين الواقعية والمثالية ، والثوابت والمتغيرات ، والفردية والجماعية ، وقد اختار القرآن لفظ الوسط دون الخيرية – كما قال الإمام محمد عبده – لحكمة دقيقة : وهو التمهيد للتعليل الآتي ( لتكونوا شهداء على الناس ) فإن الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفا ًبه ، ومن كان متوسطا ًبين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر ، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضا .
٢-حاجة الامة الى المنهج الوسطي :
ولهذا فالامة هي اليوم بامس الحاجة الى استعادة هذه التصور الوسطي ، وتفعيله كمنهج ناجح وناجع في كل شؤون حياة الافراد والجماعات ، باعتباره المنقذ الحقيقي من كل زيغ او انحراف او ضلال ،مع تشجيع سالكيه ومناصريه ، وامدادهم بكل الامكانيات المادية والمعنوية لتبليغ الجاهلين بمنافعه .
والمسلك الوسطي ليس علامة مميزة يحتكرها مجال او قطاع دون غيره ، بل هو منهج وتصور شمولي يقرب و يسع الادنى والاعلى ، ويصلح في الدين كما في السياسة والاقتصاد والاعلام والفن والتربية والتعليم وغير ذلك ، إلا ان نجاح هذا التصور في امتنا العربية يستوجب قبل كل شيء وعيا فرديا وجماعيا بنفعه وضرورته ، كما يتطلب عارفين بطرق وكيفية تنزيله، ومجندين جادين وصادقين لتفعيله وحراسته من ان تشوه او تبتذل نسخته الاصلية .
فمثلا في مجال التربية والتعليم تحتاج الامة الى رؤية وسطية ، من خلال العناية بالمناهج والبرامج التي تزرع في النشئ قيمة الاعتدال والوسطية ، من خلال اسناد عملية البرمجة وكذا التأليف المدرسي لكفاءات وطنية ذكية حكيمة يقظة وعارفة ومسؤولة وقادرة على البحث والابداع عن برامج واصورات ونصوص وازنة تأصل قيم الاعتدال والتساكن والتعايش والاختلاف الرقيق النافع ، وتهجر عناوين ومضامين التطرف والخلاف الرقيع التافه ،ولا يجب ان يقف الامر عند البرامج والمناهج والتصورات بل لابد ، كما اشرنا اليه ،من حسن اختيار الناضجين و الاسوياء للسهر على تنزيل التصور الوسطي تنزيلا صحيحا في فضاء المدارس والمعاهد والجامعات ، مع اليقظة والحذر من كل فكر او سلوك يبشر او يذيع التطرف او التسيب او الانحلال تحت مسميات فضفاضة وغير مسؤولة من قبيل الحرية ،والحق في الاختلاف وما شابه ذلك لكي لا يصير الامر مثل تقديم عسل هو في حقيقته مغشوش و مرشوش بقطرات سم زعاف .
اما الوسطية في الاقتصاد ، فتحتاج فيه الامة في تدبير شأنها الاقتصادي الى نظرة شمولية ليس فيها إفراط ولا تفريط لمصالح الفرد والجماعة ، وذلك بالابتعاد عن المقاربات الاقتصادية المتطرفة سواء المتجهة الى الرأسمالية المتوحشة التي لا تبغي الا الربح الفردي بكل الوسائل والطرق (المكيافيلية) ، وما يترتب عن ذلك من انحصاروانحسار للثروة في يد اقلية محدودة. مقابل معاناة معيشية يصيب لظاها غالبية الطبقات الشعبية، كما ان الوسطية الاقتصادية السليمة تفرض على الامة ان تنفر من ذلك الافراط و المبالغة في سيطرة الدولة على كل مجريات ومحركات الانتاج الاقتصادي ، لان ذلك يولد بدوره بروز طبقة حاكمة متسلطة ومستأسدة تقتل روح التنافسية والمبادرة و الابتكار .ولهذا يجمع كل المحللين والمهتمين بمسيرة الاقتصاد العالمي، ان كلا من النموذج الرأسمالي والاشتراكي قد فشلا في تحقيق ذلك الرخاء الاقتصادي الزعوم .
وهكذا فان ما وضحناه كمثال عن التربية والتعليم والاقتصاد يمكن ان ينطبق على السياسة والاعلام والفن وغيره ، فالوسطية في هذه الميادين كلها هي الاقدر على تحقيق نتائج جد مُرضية ،لكن بشرط ان تصاحب الرؤية الوسطية يقظة شمولية ، واليقظة هنا لا تعني بداية المجابهة الدموية مع المخالفين من المتطرفين المتشددين او المنحلّين ، بل تستوجب يقظة فكرية استباقية تعتمد اولا؛ اساليب الحوار و المحاججة والاقناع بان الوسطية هي مسلك النجاة للكل ، وانها نابعة من وعي جماهيري مدرِك بالنافع من الضار ، وان أنصارها ليسوا ببغائين بل عم يستندون على العزم والمسؤولية في تحقيق البناء وتجنب الهدم ، وان غاياتهم الكبرى ومحركهم الاساسي هو تقديم المصلحة العليا للامة والوطن على الاهواء الشخصية . وان تعذر الاقناع والحوار ، وتمادى التطرف في معاداته المجانية لمسلك الامة في اختيارها لهذا النموذج الوسطي ،فلا مناص من تدخل قانوني زجري يحمي ويصون مصالح الامة من نار فتنة محرقة قد تأتي على الاخضر واليابس.
نخلص من هذا القراءة ان من زين سلوكَه وفكرَه وتصوراته -سواء كان فردا او جماعة او امة – بتوشيات الوسطية ،فانه لاشك يرْفل في حلة الاعتدال والتسامح والخيرية ، وان جاوز ذلك فهو عَارٍ من كل خير، وغير نافع لا لنفسه أولغيره .