يوميات الصحافي يونس الخراشي بروسيا. الحلقة (18)..مسجد موسكو.. حي على الجلال والجمال

يوميات الصحافي يونس الخراشي بروسيا. الحلقة (18)..مسجد موسكو.. حي على الجلال والجمال

- ‎فيإعلام و تعليم
280
0

يونس الخراشي

يشغل مسجد موسكو، وسط العاصمة الروسية، فكر كل مسلم يزور البلد. يسمع عنه، فيتشوق إلى رؤيته. ولا يعود بخفي حنين وهو يذهب إليه. فهو تحفة فنية رائعة. وهو معماريستدعي الاستكشاف. وهو مكان تقام فيه الصلاة، وتمارس فيه طقوس الحياة كلها. إنه مسجد بمعناه الحق.

 

المشهد الأول.. جمال ووقار

فجأة، تشعر بالانبهار والسكينة. إنك أمام المسجد الكبير لموسكو. البناء هائل، وجميل. وهو يوحي لك بالوقار، ويستدعيك لتدخل في سلام ذاتي. كي تستريح. الرخام الأبيض يعانق السماء بقبة ومآذن مذهبة، وأهلة سعيدة. وسرعان ما تشتاق إلى رؤيته من الداخل. تطرح ألف سؤال بمضمون واحد:”إذا كان هذا البناء باذخا بهذا الشكل من الخارج، فكيف يا تراه من الداخل؟”.

ثم تجدك باقيا في الخارج لبرهة. تتراجع إلى الوراء كي تكون الرؤية شاملة. تندهش كل مرة تغير فيها زاويتك. تشهق. تحدق. تبتسم. تحاول أن تقول لشخص معك شيئا ما لعله يشترك معك الإحساس نفسه. تترقب كلمة ما منه. تذهب إلى جهة أخرى، تحاول أن تدقق النظر في شيء بعينه. تسافر في لحظات بين المئذنتين (أزيد من 80 مترا علوا – تشبهان برج الكريملين) والقباب. تتحرك بين القوائم والزخارف. تحملق في النوافذ. تعجب بالنقوش، والحروف. يفتنك الانسجام الماتع بين الألوان والشكل. ما كل هذا الجمال والبهاء؟

وحين تهم بالدخول، ترجع مرة أخيرة إلى الوراء. ربما لن تتاح لك رؤية هذا الجمال الفاتن كل مرة من هذه الزاوية أو تلك. تعيد التحديق في الشكل الخارجي. وتحاول أن تموضعه في الوسط الذي هو فيه. إنه في وسط العاصمة تماما. في قلبها. ربما هو قلبها. بجانبه طريق يعبر منها ترامواي تقليدي جميل. وخلفه مباشرة ملعب أولمبي مغلق، حول إلى واحد من أكبر مولات موسكو. وهناك سياج حديدي يعلو بحوالي مترين. وحديقة تحف المسجد. وأزهار بألوان زاهية. أما ما يبدو على أنه أبواب كبرى فهي ليست كذلك، بل هي جدران من الرخام الأبيض الجميل. تتوسطها زخارف خضراء خافتة الخضرة، تبرز نوافذ عملاقة. وعلى مرمى النظر تظهر المدينة في جناحها الآخر، بمبانيها الكبيرة جدا.

تهم بالدخول. تكتشف معبرا إلكترونيا للتفتيش. تمر بسرعة. وحين تجد نفسك بالداخل، تكتشف أنك لم تدخل بعد. إنك الآن في زاوية أخرى للنظر إلى البناء من الخارج. وهناك شكل جديد. باحة فسيحة جدا تفضي بك إلى أماكن متعددة؛ فإما إلى حيث الوضوء، أو إلى حيث تقام الصلاة، أو إلى محلات تجارية تبيع تذكارات، وأخرى تبيع مأكولات، أو إلى حيث يمكنك أن تنعم بقسط من النوم، أو تجلس لتقرأ القرآن، أو تتأمل، لا غير. ومن هناك، تجدك إزاء رؤية أخرى فاتنة. فما يقوم أمامك من معمار بيزنطي، يشبه معمار الكنائس الروسية، تسيطر عليه النوافذ الكبيرة، وكلها محاطة بسياجات خضراء تجعلها مبرزة، وذات جمال خاص.

أدخل بسلام. إنك في مسجد موسكو.

 

المشهد الثاني.. نور على نور

ما أن تدخل المبنى الأرضي، عبر بوابة خشبية هائلة، حتى تكتشف مكانا خاصا بوضع الأحذية، والاستمتاع بلحظات للراحة، وقراءة القرآن والذكر. فهنا وضعت خزانات خشبية جميلة صقيلة لوضع الأحذية. وبينها مساحات مدروسة للراحة، حيث ينام البعض، ويشتغل غيره بالعبادة، فيقرأ الكتاب، أو يسبح. وترى السجادة الخضراء، بلون الزخارف الخارجية، تريح قدميك بفروها الرائع. وترى سياجات وفواصل من الخشب المنقوش، كي تحافظ لك على قدر من الحميمية. ثم إذا بك في باحة شاسعة، تفضي بك إلى أروقة، ولك أن تختار أيا منها تريدها أن تذهب بك إلى الطابق الأول، حيث تقام الصلوات.

وأنت في طريقك إلى الطابق الأول تصاحبك نقوش رائعة على الجدران، وفي السقف، كلها روسية الهوى، تترية الأصول، إسلامية المبنى والمعنى. تقودك إلى مكان فسيح جدا، حيث تقام الصلاة. لترى بعينيك محرابا مشغولا بنقوش ذهبية، وحروف عربية. وترى منبرا مبنيا بالرخام الأبيض، يقف بجلال وجمال على يمين المحراب، في انتظار إمام الجُمَعِ. تجلله من فوق مئذنة، مشغولة بدورها بنقوش ذهبية. وعلى اليسار، غير بعيد، منبر صغير، للدروس، وصلوات الأعياد.

الأعمدة الرخامية الهائلة كأنها ليست موجودة. فهي ليست كثيرة، ولكنها عظيمة. تفضي إلى طابقين آخرين؛ أحدهما لإقامة الصلاة، والآخر عبارة عن متحف. وفي الوسط قبة هائلة، شغلت بنقوش ذهبية جميلة، وزخرفت بآيات سورة الشمس، بشكل جعلها تبدو كأشعة ترسل من فلك دوار، لتنير المسجد كله بنورها. وهو المبنى العام الذي يقوم عليه المكان، بحيث تفهم، وأنت بالداخل، مغزى ما شاهدته من الخارج. فالزخارف والقباب والمئذنات كلها عبارة عن حيل هندسية لإشباع المسجد بالضوء، فلا حاجة بك إلى الأنوار، بل إلى التأمل فقط لا غير.

أما الزخارف التي تشغل السقوف فهي روسية المنشأ؛ سواء منها تلك التي تنتهي إليها الأعمدة الرخامية، أو التي تملأ جزءا من زجاج النوافذ، أو التي قامت عليها الحواجز في الطابقين الثاني والثالث. ومع أن الأضواء تتسرب من كل جانب، إلا أن الثريا التي تتدلى من وسط القبة، في قلب المسجد، تغريك دائما بالنظر. إنها بشكل قبة من فوق كما من تحت. تحفها من حولها ثريات أخرى، بشكلها؛ أي قباب من فوق ومن تحت. تأكيد رائع للمبنى العام، وهو النور الذي يملأ المكان، ولأجله وجد المكان، ولأجله يدخل المسلم إلى المسجد.

 

المشهد الثالث.. المتحف والمتجر

ولأنك تعرف بأن الزيارة قد لا تتكرر، فإنك تترك لدهشتك الطفولية أن تقودك إلى كل زاوية في المسجد. تتبع قلبك إلى الطابق الثاني. فتعرف وأنت تقترب منه، عبر الأدراج لا عبر المصعد، أن الطابق الثالث مغلق. وحين تلج إلى المكان الفسيح أيضا، تنعم برؤية الطابق الأول من عل. يا الله، إنه مشهد رائع للغاية. السجاد الأخضر مثل مرج في الربيع. والأعمدة الرخامية مثل ملائكة تحف المؤمنين. والنوافذ في الأفق المنظور ابتسامات تفتح الطريق. أما القبة من فوق، تتوسطها الثرياالجميلة، فباب في السماء ليصعد منه الدعاء.

في المتحف، الذي هو جزء أساسي من مسجد موسكو، يمكنك أن تبدأ سفرا آخر. فأنت أمام نسخ قديمة جدا من المصحف الكريم. كل نسخة وضعت بعناية في صندوق زجاجي، وكتبت عليها جمل تعرف بالمرحلة، وتضعك في السياق العام للمنجز الثقافي. وهناك لوحات علقت على الجدار، كلها تحيلك على مكان مقدس عند المسلمين. وتمشي من معلم إلى معلم، فتجد نفسك قد كنت في خط دائري، يفضي بك مرة أخرى إلى الشرفة. فتطل مجددا على الأسفل. وتعيد الكرة، لعلك ترى في المناسبة الجديدة ما لم تره في التي سبقتها.

أما وأنت تنزل الأدراج إلى الأسفل، فتكتشف بأن هذا المسجد اتخذ لنفسه بناء بالمعنى الصحيح. فهو ليس مكانا لإقامة الصلاة وحسب. إنه معمار للحياة. فيه تقام الصلاة؛ أي نعم، وفيه أيضا أماكن للراحة، وأخرى للتعبد بالذكر، وأخرى لبيع التذكارات، ومطاعم، ومحلات تجارية، ومكان للوضوء. وهو يقدم لك نفسه تحفة فنية هائلة، يمكنها أن تصلح للتدبر في تاريخ أمة بأكملها. وبخاصة في روسيا التي مرت فيها المساجد بمعابر ضيقة ومظلمة، على العهد الشيوعي. فقد كانت تدمر شأنها شأن الكنائس. ولم يبق منها إلا المسجد الكبير، لأسباب سياسية بحتة. قبل أن يهدم بداعي أنه منحرف عن مكة، أو لأنه قام على فرع من نهر موسكوفا. ثم يعاد بناؤه، ويفتتح سنة 2015، من رئيس الدولة نفسه، وشخصيات عالمية. في بداية لعهد جديد، جعل مسلمي روسيا، وهم حوالي 20 مليون نسمة، ضمنهم مليونان أو أكثر بالعاصمة، يتنفسون الصعداء.

 

تحية المسجد..

كنا نتجه إلى المسجد الكبير لموسكو. وحين طلبنا من رجل مسلم، جلس قريبا منا في الميترو، أن يدلنا على المحطة الأقرب إلى الجامع، إذا به يأخذنا معه إلى المسجد التاريخي (الصورتان –رخص ببنائه سنة 1832). وهو الأول في العاصمة الروسية.

لاحظنا أن المصلين، وأغلبهم من الجمهوريات الأخرى التابعة للاتحاد الروسي، ينضبطون بشكل عجيب للسنن والرواتب. فما أن انتهى الإمام من خطبة غير منبرية، وهي طويلة وعجيبة، حتى قام الجميع قومة رجل واحد إلى تحية المسجد. نبهنا إلى ذلك روسي يتحدث العربية. قال لنا:”هذه ليست فريضة. إنها سنة تحية المسجد”. قلنا له:”صليناها حال دخولنا”. وتابعنا المشهد باستغراب.

حدث الشيء نفسه بعد نهاية الخطبتين المنبريتين، اللتين أطال فيهما الإمام الروسي أكثر من اللازم، في جو شمسه حارقة، دون أن يراعي لمن هم بالخارج بلا ظل. فقد قام المصلون دفعة واحدة إلى الرواتب، يصلون ركعتين ركعتين. واضطرنا ذلك إلى أن نبقى حيث نحن، حتى ينتهي الجميع مما هم فيه. ثم غادرنا، لنكتشف أن هناك شيئا ما ليس على ما يرام يمس أهل هذا الدين.

وجدنا خارج المسجد قد تحول إلى سوق هامشية. هناك بائعو “خبز الدار”. وهناك بائعو “مركاز” (النقانق الحلال). وهناك بائعو “الريب” (لبن إيران مخلوط بأوراق النعناع). وهناك متسولون كثر. وهناك لخبطة في الطريق المحاذي للمسجد. وهناك إقبال كبير جدا على المطاعم القريبة التي تبيع الأكلات الخفيفة الجاهزة.

ولأن زيارة المسجد الكبير كانت ضرورة بالنسبة إلينا، تمليها حاجتنا إلى الاطلاع على المعلمة. فقدقررنا أن نمضي إليه، على أن نصلي العصر هناك. وعرفنا أنه يقع غير بعيد عن محطة “براسبيكميرا”، على الخط الدائري رقم 5، وعلى الخط البرتقالي رقم 6. ويعني ذلك أنه يوجد في قلب العاصمة، ومتاح جدا عبر خطوط الميترو التي يفضي بعضها إلى بعض.

 

14 يوليوز 2018

 

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت