يونس الخراشي
يمكنكم الدخول إلى “جوطية موسكو” بمجرد الخروج من محطة الميترو “بارتيزانسكايا”. فالعرض يبدأ مبكرا جدا، حتى قبل الوصول إلى الباب الموجود على بعد حوالي 500 متر. والزائر المغربي لهذا المكان من العاصمة الروسية يستطيع أن يعيش لحظة مغربية بامتياز. الفراشة وما أدراك ما الفراشة. يضعون رهن إشارتك، وعلى مدى حوالي كيلومتر، ما قد يخطر ولا يخطر على بالك. ولكن بثمن يناقش. فوجود “فيرنيساج” وهو اسم “قريعة موسكو”، بمحاذاة عدد من الفنادق الضخمة والفخمة، يوحي إلى هؤلاء الباعة أن كل من جاءهم ميسور، وسيدفع أي ثمن يطلب.
مدخل يستحق وقفة..
يقول المغاربة “علامة الدار على باب الدار”. والمدخل إلى “فيرنيساج إزمايلوڤو”، الموجود غرب العاصمة موسكو، يصح عليه المثل. فهو في حد ذاته عرض فني متميز. لا يمكن للزائر أن يبقى محايدا إزاءه. وحين تنتهي الزيارة، يفهم من زار “القريعة” أو “الجوطية” الموسكوفية لم كل ذلك التفنن في المدخل. وأي رسالة أريد إيصالها إلى المتوافدين على المكان.
إنه، بكلمات أخرى، عبارة عن مقدمة تلخص كل شيء. تاريخ الروس. حضارة البلد. التميز الفني. الوحدة في ظل الاختلاف. فهناك السور الطويل، القائم على أعمدة حجرية فتانة. ذلك دليل قوة الجذور، والبنيان. وهناك الأفق الذي تلوح منه القباب على أشكالها، و”المآذن”. فتارة على بناء قائم تام، وتارة على بناء تتوسطه أقواس. وكلها تعلن تشبث الروس بدينهم، وبأصالتهم. وهناك الزخارف المتنوعة، والتي لا تحصى. تدل بدورها على تنوع كبير، يشير إلى قوميات تمد موسكو بقوة لا تضاهى.
ولأن مستعملي الميترو، وهم الأكثرية، يتعين عليهم السير لمسافة غير قصيرة، فإن “الفراشة” يؤدون دور المرحبين بالزوار. يقدمون لهم “المقبلات”، على أن يتذوقوا ما لذ وطاب بداخل “فيرنيساج”. ولئن كانت الأثمنة عالية جدا، فإن المعروض من السلع يستحق أن يرى. فـ”اللي ما شرا يتنزه”.
أكثر شيء يثير الانتباه في السلع التي يعرضها “الفراشة” هنا هو الكتاب. إنه عنصر أساسي. لا محيد عنه. قد تجد العارض يضع على بساطه ملاعق خشبية مزوقة، أو صورا قديمة جدا لأوائل البلاشفة، أو تنورات للصبايا، أو شعر اصطناعي، أو براغي وآليات. ولكن للكتاب مكانه بالضرورة. فلا بد من كتاب جديد أو قديم. إنه شعب قراء. القراءة عنده عادة. يتساوى فيها الكبير والصغير. حتى الآيفون والآيباد يستعملان كثيرا للقراءة. الاستعمالات الأخرى تأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة.
معروضات ولا أروع..
ما أن تضع قدميك في “جوطية فيرنيساج” حتى تأسرك بعارضيها ومعروضاتها ومعرضها. هناك تناسق جميل بين هذا الثلاثي. تكاد تشعر، في بعض اللحظات، أن كل ما تتحرك فيه عبارة عن عرض واحد. فالحوانيت عبارة عن غرف مصنوعة من الخشب المزركش. والمعروضات متنوعة ومختلفة، بحيث تجذب عينيك. والعارضون والعارضات منسجمون مع معروضاتهم بالوجوه الجميلة المبتسمة.
هناك أشياء رائعة في “جوطية موسكو”. وليس من قبيل الصدفة توافد الأفواج تلو الأخرى لزيارتها، واقتناء ما فيها. بين القديم والجديد سفر ممتد. ولئن طغت الدمى الروسية، والقبعات و”الكشكولات” المصنوعة من فرو الدببة، والمشغولات الخشبية المزوقة، فإن هناك أشياء أخرى، من قبيل الطوابع البريدية والصور والرايات المؤرخة لمراحل مختلفة من تاريخ البلد، وبخاصة من المرحلة البولشفية. وهناك أوان من خزف وأخرى من خشب، تمتح من التراث الروسي. وهناك تذكارات من كل نوع، لعل أبرزها حمالات المفاتيح المصنوعة من الكهرمان.
يسعف المعرض زائره، بشكله، في زيارة مفيدة وممتعة. فهو يقوم على مدخل يفضي بك إلى عدة أزقة، تسهم في توزيع الزوار، والتخفيف من الضغط على المجال. ثم يصل المرء إلى محطة تفضي به إلى أدراج، ليصعدها فيجد نفسه إزاء معرض فوقي، يقدم له معروضات أخرى من نوع آخر. ويمكن الخروج بيسر، بعد ذلك، من خلال الأدراج نفسها، الموزعة بطريقة تتيح المغادرة بسهولة.
الصعود إلى الطابق الفوقي، المفتوح على ما أسفله، يأسر بدوره. وهو فخ للزائرين. إنه يغري بالشراء من جديد. فالنظرة من فوق تفتح الشهية مرة أخرى. توجه العين إلى وجهات أخرى، وتذكرها بما لم يتسن لها الوقوف عنده لفترة أطول. وبحق، فالنظرة من هناك لها أثر مختلف. إنها نظرة آسرة.
بيع وشراء و”متاوية”..
يمكن لزائر “جوطية موسكو” أن يناقش بشأن الثمن المطلوب. فهنا يفتح العارضون الباب لكي يطلب الراغب في الشراء التخفيض. ورغم أن هناك ثمنا لكل معروض، إلا أن الباب مفتوح لـ”الشطارة”. وهذا يجعل المشترين يطمعون في سعر يتيح لهم اقتناء معروضات أكثر، ويشجع العارضين على تسويق منتوجاتهم في موسم جيد؛ هو موسم مونديال فيفا 2018.
وفرة العرض، من النوع نفسه، تعطي للزائرين إمكانية كبيرة كي يبحثوا عن ثمن يناسبهم. وفي بعض الأحيان تكفي كلمات طيبة لكي ينتهي كل شيء. مثاله تلك التحية التي ألقاها على بعضهم طاجيكي. قال وهو يتبين أنهم من بلاد المسلمين:”السلام عليكم”. وكانت التحية بمفعول السحر. فقد تسمرت الأقدام عند محله. وكانت “الشطارة” أسهل. وتبين لاحقا أن الزبائن اقتنوا أغلب مشترياتهم من ذلك المحل.
الابتسامات العريضة للوجوه الجميلة، على الأغلب، هي الباب الأكبر الذي يفتح لجذب المشترين. فهناك دائما رغبة لدى الزائرين لمعرفة جديد يضيفونه إلى معلوماتهم عن روسيا. وهذا يتيح الفرصة لبدء “الشطارة”. ولا يسلم أي داخل لهذا السوق العجيب من لعنة الشراء. فالحاجة كبيرة إلى تذكارات للأحبة، والمعروض ساحر ويفي بالغرض.
وقد يحدث أن يكون العارض من ذلك النوع الذي شغل به الإعلام المسيس عقول الناس عبر العالم. من أصحاب الوجوه العبوسة. فلا يبتسم مهما حدث. حتى ولو عثر على كنز. وقلما تجد أحدهم يتوقف عند باب محله. وإن حدث ذلك، تكفي نظرة من البائع كي يغير الزبون رأيه. فينطلق مهرولا إلى مكان آخر.
**
دمية روسية..
الشابة التي في الصورة تصنع، مع أمها، دمى روسية من طراز خاص. قالت:”هذه الدمى فريدة”. وحين سألتها:”ماذا تقصدين بكونها فريدة؟”. قالت أمها، الأكثر منها شبابا ونضارة:”نحن من يصنع هذه الدمى بأيدينا. وهي مصنوعة من خشب خاص. وكل واحدة منها لا يعاد صنعها أبدا”. ابتسمت، وحاولت الإغراء حتى يبدو الثمن معقولا، رغم أنه لم يكن كذلك:”إن اشتريت واحدة من هذه الدمى، ستكون لك وحدك عبر العالم. لن تجد لها مثيلا أبدا”.
حين انتهى الكلام انصرفت إلى محل آخر ونظرهما يشيعني. في وقت كنت أتساءل مع نفسي:”ترى هل حقا هذه الدمى فريدة؟ كل الدمى الأخرى مصنوعة من الخشب. وكلها مصنوعة باليد. وكلها لا مثيل لها. ترى ما الذي كانت ترمي إليه تلك السيدة وابنتها؟ لعلهما كانتا تحاولان البيع بثمن فريد، هذا لا نقاش فيه”.
تؤكد موسوعة “ويكيبيديا” أن الدمية الروسية، أو ماتريوشكا (بالروسية: Матрёшка)، عبارة عن دمية تتضمن داخلها عدة دمى أخرى بأحجام متناقصة، بحيث أن الأكبر تحوي الأصغر منها وهكذا. وهي التي تعرف أيضا باسم بابوشكا. وتصنع الدمية عادة يدويا من الخشب مثل خشب الزيزفون أو خشب الصندل. ويختلف طرازها حسب الصانع، لكنها عادةً ما تمثل المرأة الروسية الريفية باللباس التقليدي سارافان Sarafan. وترسم ملامح المرأة وبناتها اللاتي يشبهنها، وغالبا ما يغطى الرأس باللون الأحمر، إلا أن هناك تطورا في الألوان .. ويبدأ الصانع برسم ملامح الوجه قبل التلوين.
وبصدق، فإن تلك الدمية تمثل بشكل أو بآخر روح روسيا. فهي صنعة أبنائها. وهذه الصنعة تخبئ مصنوعات كثيرة من طرازها أو أجمل منها. ويحتاج زائره البلد أن يستخدم يديه وحواسه كي يكتشف الجديد الجميل في كل مرة. على أنه كلما اكتشف الجديد، إلا افتتن به. ولعله ينسى ما سبق.