موسكو: يونس الخراشي
تشبه المواصلات في موسكو الدمى الروسية في وظيفتها. ففوق أنها تصنع الجمال، فهي تربطك ببعضها البعض، بحيث لا يمكن الفصل بينها. أشكالها جميلة. ألوانها عجيبة. وبعضها يفضي إلى بعض، في ما يشبه المفاجأة. من الأكبر إلى الأصغر. فالميترو عداء مجنون، ينتهي بك إلى محطات الباص والميكرو باص. وهذان يتحركان بسرعتين؛ الأول أسرع لأنه ينتقل بك مسافات أطول من الثاني الذي يمضي مثل سلحفاة، ويتوقف في محطات متقاربة جدا. وهناك حافلات تقليدية، تتحرك بالكهرباء. وفي الأخير هناك الترامواي، وهو أشبه ب”خضرة فوق الطعام”. للزينة، أكثر منه لشيء آخر.
يستحيل، وأنت في موسكو، أن تتيه أو تتأخر عن موعد بسبب المواصلات. ربما يحدث تأخير، ولكنه نادر. فما أن يغادر ميترو حتى يأتي آخر. في أقل من دقيقة يأتي الميترو التالي. وحين تصل إلى المحطة المطلوبة، تجد هناك، وعلى مقربة منك، محطات للباص. وقد تحتاج إلى الميكروباص، فيأتي قبل أن تتمنى ذلك. وإن كنت ترغب في رحلة للمتعة أو لتزجية الوقت، فهناك الحافلات الكهربائية والترامواي. كلاهما ينتمي إلى العهد القديم. ويتحركان بتؤدة. تماما مثل رجل مسن، عاش على عهد ستالين، ويفضل أن يبقى على العهد حتى وهو في زمن آخر.
الميترو الموسكوفي.. الفعالية
الميترو الموسكوفي عجيب جدا. يبدو قديما من حيث شكله؛ سواء من الخارج أو من الداخل. فقد صبغ من الخارج بلون أخضر عسكري يعطي الانطباع بأن القطارات جزء من فيلم عن الحرب العالمية الثانية. ومن الداخل هو عبارة عن غرفة طويلة جدا بقياس يقارب خمسة وعشرين مترا، جدرانها من خشب رقيق مصبوغ بالأصفر. ونوافذه كبيرة جدا، وغير قابلة لأن تفتح. أما الأثاث الداخلي فكراسي طويلة، مغلفة بجلد بني غامق، ومسنودة على الحديد. وفي الجانبين، من هنا وهناك، وضع قضيبات ليسند الجالس يديه، في انتظار نهاية الرحلة.
بين ذهاب ميترو ورحيل آخر مسافة أقل من دقيقة زمن. فقد لا تحتاج إلى الجلوس على الكراسي الموضوعة على الرصيف لتنتظر مجيء القطار التالي. أما حين يأتي، فيصطف الذاهبون، في نظام وانتظام، على جانبي الأبواب في انتظار نزول الآتين. ثم ما أن يصعد الجميع، حتى تبدأ الرحلة المجنونة. فهذا القطار الذي يمضي مثل أفعى خرافية تحت العاصمة الروسية، يسابق الريح. فإن لم تشد بقوة على المقابض، فلا شك ستضطر إلى طلب المعذرة ممن أنقذوك من سقوط وشيك. يا لها من سرعة لا توصف، على بعد أزيد من ثمانين متر تحت الأرض.
ليس هناك نوع واحد من الميترو في موسكو. بل هناك نوعان. أحدهما يمضي في خطوط متعرجة، تقطع المدينة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. أما النوع الثاني، فيتحرك بطريقة دائرية؛ دائرة كبيرة يمر قطارها على الضواحي، وأخرى يمر قطارها وسط العاصمة. وهذا القطار الثاني أكثر أناقة من الأول. فهو حديث على ما يبدو، من خلال شكليه الخارجي والداخلي معا. من الخارج يبرز مصبوغا بألوان زاهية مختلفة، ويظهر من الداخل بلون ناصع، وكراس أجمل وأكثر راحة. وخارطته التي تدل المسافرين على المحطات تتفاعل بدوائر تضاء، عكس خارطة القطار الأول الجامدة.
الحافلة تتحدث.. البساطة
الحافلات في موسكو كثيرة للغاية، وأنيقة. فعندما تصل إلى محطاتها تفاجئك وفرة الخطوط. وهذا يجعلك تطمئن إلى أن هناك خدمة كبيرة، وبالتالي فأنت في أمان، وستصل إلى حيث تريد. وهي تتحرك ببطئ بالقياس إلى ميترو الأنفاق. فإن كان هذا يطير، فهي تسير. ولئن كان الميترو يقطع مسافات طويلة جدا كي يتوقف في محطته التالية، فإن الحافلات تسير لمسافات متوسطة جدا، ثم تتوقف. وهما يكملان بعضهما، فالميترو يفضي بك إلى محطات الباص، والأخير يقربك إلى حيث يمكنك أن تنزل بالأدراج كي تركب قطارات الأنفاق.
تستعمل حافلات موسكو الوسائل الحديثة جدا. نادرا ما يؤدي أحدهم ثمن التذكرة نقدا. كل الركاب، غير الغرباء، يؤدون الأثمان بالبطائق البنكية. يضعون البطاقة على جهاز مثبت في العامود، ثم يحصلون على إشارة خضراء تؤكد الأداء، وينطلقون إلى مكان شاغر. حيث يتسنى لهم الجلوس على كراسي مريحة، بقاعدة صلبة، مغلفة بغلاف قطني أزرق رطب الملمس. يؤدي المطلوب، حتى إن ما يبعثه من الراحة قد يسرع بك إلى النوم.
النوافذ لا تفتح. كل ما هنالك نافذتان في السقف، يمكن دفعهما من الجانبين إلى الأعلى، حين يكون الجو حارا، عسى فتحتاهما تساعدان على تهوية المكان. وغالبا ما تكون الحافلات بعدد معقول من الركاب. وهذا يجعل التهوية جيدة، ولا حاجة إلى فتح النافذتين في الأعلى. ثم إن عرض الحافلة المميز، وعلو سقفها، يجعل الركاب في راحة أكبر. فهذان العنصران يعطيان الانطباع، دائما، بأن هناك مساحات فارغة، وبالتالي هناك هواء فائض.
ويلاحظ الزائر الجديد، وهو على متن حافلات موسكو، إشارة وضعت على النوافذ في الجنبين. وهي الإشارة التي تدله على أن عددا من الكراسي، بالتحديد، وضعت ليستعملها العجوز والعاجز والمرأة الحامل والسيدات اللواتي يرافقهن رضيع أو طفل في سن صغيرة. ودائما ما يبادر الجالسون من الشباب إلى الوقوف، ويمنحون المكان لمن هم أكبر منهم سنا، أو لديهم عجز. وفي مرات كثيرة جدا رفض الكبار الحصول على هذه المكرمة. فالناس في موسكو يحبذون أن يظلوا شبابا. وهناك أيضا كراسي خاصة بذوي الإعاقات. مثلما أن لديهم مدخل خاص بهم.
الترامواي.. التاريخ ينطق
بدأ العمل بترامواي موسكو سنة 1899؛ أي أن إنشاءه بدأ قبل ذلك بكثير. ويقول بعضهم كان ذلك سنة 1872. وسواء تعلق الأمر بالأرضية التي يتحرك عليها، أو بشكله، فالصورة تحيل على ماض سحيق. ذلك أن الأرضية من الحجر الصقيل المتين، وشكل القطار، غير الطويل، بحوالي عشرين مترا فقط، يحيل على زمن آخر. إنه قطار حافلة إن صح التعبير. إلا أنه يتحرك على سكتين. وهو يسير ببطئ واضح، ويتوقف عند إشارة الضوأ الأحمر.
الجميل في ترامواي موسكو، المتحرك على خمسين خطا، أنه يشرك باقي وسائل النقل، من سيارات وحافلات وغيرها، في استعمال معابره. فليست هناك معابر خاصة بهذه الوسيلة القديمة، والتي يبدو من شكلها أنها جدة الحافلة الموسكوفية، صممت لزمنها. يؤكد ذلك وجود الترامواي نفسه في كل من سان بتيرسبورغ وكالينينغراد، وبنفس الشكل وقواعد العمل. والغريب، والجميل معا، أنه يرى باستمرار شبه فارغ من الركاب.
إلى جانب الترامواي الذي يتحرك باستعمال الطاقة الكهربائية، توجد “حافلات السلك”. وهذه بدورها تمضي ببطئ واضح. ونادرا ما ترى مملوءة بالركاب. وهي تسير بجانب الرصيف تماما. يحترم موقعها أشد الاحترام. وتظهر الأسلاك التي تحركها قوية، وقديمة أيضا. فهي من عهد عهيد. وما تزال تستعمل جنبا إلى جنب مع الميترو والحافلات والميكروباص. هذا الأخير الذي يربط بين محطات متقاربة جدا في الحي الواحد. ويتضمن عددا محدودا مو المقاعد الوتيرة الجميلة.
في الحافلات والميكروباص والترامواي والحافلات الكهربائية، الراكب هو الملك. يتعين على السائق أن يكون رهن إشارته من البداية إلى النهاية. يقدم له الخدمة اللازمة. يشرح ويوضح ويضيء العتمات. ولذلك فكلما صعدت وسيلة نقل من هذه الوسائل إلا وجدت صورة واسم السائق معلقين في المدخل تماما. فالاحتياط واجب، وربما يحدث ما يستدعي تلك المعطيات. أما الكاميرات المثبة في أكثر من مكان، فضرورية عند الحاجة. وهي وسيلة لطمأنة المستخدمين بأن كل شيء تحت المراقبة.
محطات الميترو.. المعارض
بدأ العمل بميترو موسكو شهر ماي 1935. مع أن الفكرة وجدت قبل ذلك بكثير. والمثير فيه ليس فقط طول القطارات وسرعتها، بل جمالية المحطات. إنها عبارة عن معارض لإبراز التحف الفنية الخالدة. ما من محطة إلا وهي نفسها تحفة تستحق العرض. وهي تستعمل نفسها لتعرض على المستخدم تحفا فنية تسلب العقول.
ينطلق العرض من الخارج عادة. فالشكل الخارجي للبناية عبارة عن عمران يأخذ الرائي بشكله الفني المميز. ثم يأتي الدور على الأدراج الكهربائية المميزة. فهي تنزل بك، وبسرعة وتناغم، أزيد من سبعين مترا تحت الأرض. وفي بعض المحطات قد تحتاج إلى نزول ثان. لتصل إلى الميترو المطلوب.
وكلما كنت تنزل الأدراج إلا وسحرك السقف المقوس، والذي غالبا ما يكون مزينا بنقوش. كما تسحرك الأضواء المثبتة وسط الفاصل بين الأدراج، وتعطي للمكان حيوية بأنوارها. ثم تمضي إلى أسفل، فإذا بك تتردد؛ هل ينبغي أن أبقى هنا لمزيد من الوقت أم أسرع نحو القطار.
فالمكان كله تحفة. الثريات رائعة، ولكل محطة شكلها الخاص بها. والسقف المقوس ليس محايدا، بل يضم زخارف جبسية، أو زليجا مزركشا، أو لوحات فنية. وقد تجد على الجدران الجانبية تماثيل ضخمة، لجنود ماتوا في الحرب العالمية الثانية، أو لنجوم أو أبطال سوفييت.
وحين تلج مكان السكك، تفاجئك، مرة أخرى، عروض مبهرة للوحات فنية أو منقوشات. وغالبا ما تجد المشغولات الرخامية الأكثر حضورا. فمحطات ميترو الأنفاق في موسكو كلها تحتفي بالرخام، الأبيض والملون. حتى الحديثة منها، مثل محطة خوفرينو، تتزيى بالرخام الأحمر.
ولا ينتهي العرض الفني إلا ليبدأ من جديد. فالحياة تحت الأرض بموسكو تنافس الحياة فوقها. فهناك دروب، وأدراج، ولوحات، وموسيقى، وأمن، وكاميرات، وزحف بشري كبير. وهناك بدايات ونهايات. وهناك لقاءات وفراق. وهناك دموع وفرح. وهناك ضوء وظلام. وهناك عرض لا يتوقف.