يوميات الصحفي يونس الخراشي بروسيا.الحلقة (07)..خوفرينو.. حديقة الهامش..

يوميات الصحفي يونس الخراشي بروسيا.الحلقة (07)..خوفرينو.. حديقة الهامش..

- ‎فيإعلام و تعليم
302
0

يونس الخراشي

في الجهة المقابلة لمقر إقامتنا بموسكو توجد حديقة جميلة. امتداد لغابة على حافة النهر. صنع منها المسؤولون مرفقا للراحة. صارت مزارا يجذب الناس. كل نهاية أسبوع تقام فيه منافسات رياضية يحج إليها الكثير. في باقي الأيام تمارس هناك تمارين لتجديد الدماء. ويأتي البعض كي يمشي على حافة النهر، تحت ظل الشجر.

هناك معبر صغير من أسفلت. في الحافتين عشب صغير مشذب. والأشجار بأنواع كثيرة. تمضي لثوان فتجد أمامك لافتة بخارطة المكان، فإما أن تيمم شطر المقهى أو شطر الغابة. لك أن تختار بين الجميل والجميل. فالمدخل واحد، والمخرج واحد. الهواء ممتع، والعبق رائع، وما يحيطك كله مغر بمتعة المشي، والتحرر من متاعب العمل والحياة.

حين تختار طريق المقهى تكتشف أنك تمضي إلى جنة صغيرة. فقد ارتأى المسؤولون أن يصنعوا ممشى من خشب يتواءم مع الحديقة. حتى الأشجار تعاطوا معها كي تظل في مأمن؛ قدًُّوا الخشب على مقاس دائرة الجذع. وهناك أدراج لتعلو بك مرة، وتنزل بك مرة. فلا تشعر سوى بالجمال. وتنسى أنك تعبت. وتتنبه، فترى أن عينيك سافرتا نحو البعيد. ونفسك غاص في العمق. وضربات القلب هادئة بديعة. وذهنك صاف مطمئن.

الطيور في الحديقة الجميلة لا تخاف. تمر بجانبها فلا تهتم. يعبر متريض فلا تلتفت إليه. تقفز قفزاتها الخفيفة بحثا عن جذع جاف أو حبة طعام. تسمع زقزقاتها الملهمة بين أغصان الشجر. وعندما تتعب أنت فتختار الجلوس على كرسي لتسترجع الأنفاس، تأتي حمامتان تتبادلان القبل. تتزاوجان. وتبقيان عند قدميك. لا قلق ولا خوف ولا انزعاج. فالناس عودوا بقية المخلوقات، في هذا المكان، على الألفة. والمخلوقات إياها قبلت التعاقد. جربته. وثقت بما جاء فيه.

تصعد الدرج الخشبي، المرن، بلا صرير يذكر، وأنت تمضي إلى الاتجاه الآخر، فتفهم من حركات رجل خمسيني، يتحدث مع زوجته، أنهما يناقشان مشاكل الحياة. هو يوم عطلة. اختارا مكانا هادئا، تظلله أغصان الشجر، ويفضي إلى البحيرة، كي يناقشا ما أشكل عليهما. فلا معنى لأن تجاول البحث عن حلول لمشاكلك وأنت في المكان نفسه الذي شهد على إنتاج تلك المشاكل. اذهب، أيها الأحمق، أنت وزوجتك، إلى البعيد البهي. هناك ستهدآن. ستنسيان. ستضحكان. وتكتشفان أن المشكلة عادية. لا تحتاج كل ذلك القلق المتفاحش. وتعودان بخفقات جديدة ومديدة.

يمر من جانبك رجل يشتعل رأسه شيبا. وحين يبتعد، وزفيره المنبعث من ركضه ما يزال يصلك، تظن أنه لم يعد يقوى على شيء. ثم إذا بك تجده، لاحقا، مثل قط، معلقا في قضيب حديدي ورجلاه في الهواء. يصعد بصدره وينزل. لا يبالي بمن حوله. ما يهمه أن يكون سليما، بعقل سليم، وروح سليمة. والعرق المتفصد من ظهره يبلل القميص. قد يذهب لاحقا، مثل غيره، إلى البحيرة ليستحم. هناك ماء بارد وخضر. وهناك غواية أخرى.

في الجانبين، وعلى الرمل الموضوع بعناية عند الشاطئ، تجد سيدات في مقتبل العمر ومغربه، وهن مستلقيات. هنا واحدة. هناك أخرى. كطيور الحديقة تماما. لا تبالين. فلا خوف هنا من لص يخطف الهاتف المحمول. لا قلق من متحرش يترصد الجسد، ويلقي كلاما يسمم. لا من يزاحم على المكان نفسه، نكاية في السعادة والراحة. خذ حظك من المكان. تمدد على العشب. انهل ببصرك من الخضرة والماء. أغمض عينيك لبرهة، وافتح قلبك. سافر.

من الجهة المقابلة للمدخل منظر يخلب. من هناك تظهر البحيرة معظمها. أنت وسط ظل ظليل، تطل منه على الفندق وكأنه شيء عجيب يتصاعد من قلب الغابة. تحفه سماء وخضرة. وفي المدى القريب فرحة أطفال وهو يتقافزون بين اللعب المثبتة بعناية وسط الرمال. أما الآباء فلهم شغل آخر. لديهم فسحة للتفريغ. ونسوة يحضرن لسباق ترياتلون؛ فيه جري وسباحة وركوب للدراجات العاديات. إنهن فرحات جدا. يشرحن لك. ويدعونك للحضور. الابتسامات مفرحة.

ليست هذه الحديقة الوحيدة في موسكو. فالعاصمة كلها حديقة، أما البنايات فقطع من الدومينو منثورة وسط الحشائش الخضراء. إنما تلك حديقة في الضاحية. تشبه الأخريات في مركز المدينة. بل تفوقهن جمالا من حيث جمعت بين الشجر الكثيف، والبحيرة المفضية إلى النهر، والانزواء في مكان هادئ جدا. هي أشبه بمنتجع مفصول عن المدينة الأم. وفي يومي عطلة نهاية الأسبوع ترى الناس يقصدونها جماعات وفرادى. الطمأنينة تشد إليها الرحال.

لا يمكن أن تجد في موسكو، وحتى في غيرها، امتيازا لحي على حي. لا مجال للتمركز المجالي. هناك تهيئة ترابية واضحة جدا. الكل يستفيد من الموارد والمقدرات. وأسهل شيء هو الوصول إلى الحديقة في خوفرينا، ضاحية موسكو، أو أي حديقة. أينما كان المنطلق. ومهما كان بعيدا أو بدا لك أنه كذلك. فتجربة ثمانية أيام فقط أكدت أن الأمر بسيط جدا. وحتى حين تخطئ الطريق، فهناك دائما طريق.

لنفترض أنك غريب، أو عابر من موسكو، وترغب في أن ترتاح في حديقة نصحك أحدهم بزيارتها. ولنفترض أنك نزلت بأول محطة للميترو. فما عليك سوى أن تظهر للناس بأنك تائه. الحرف الروسي لا يبين لك. سيتهافتون عليك، ليقدموا لك مساعدتهم. وستقول لهم خوفرينو بارك، مقلا. ثم سترى كيف ستصبح بقية الرحلة إلى الحديقة عبارة عن متعة. فيها تكتشف مدى جمال الوجوه والقلوب. وستندم لأنك رسخت روسيا في لاوعيك على أنها بلد صامت، ورمادي، ومتجهم، ويكره الأجنبي.

وستذهل حين تفهم بأن الميترو، السريع والفعال، يفضي بك كل مرة إلى محطات للحافلات؛ الكبيرة والصغيرة. وقد يفضي بك أيضا إلى محطات الطرامواي. وسترى أنه يستحيل أن يتيه الغريب في موسكو. وحين تصل حديقة خوفرينو، على الجانب المقابل لفندق هوليداي إن إكسبريس، ستتساءل مع نفسك:”هل فعلا أنا في الواقع أم في الخيال؟ هل هذه طريق أم رسم؟ هل هذه حديقة من شجر وحجر أم خدعة بصرية؟”. ثم ترتاح. وقد تنام. وقطعا ستحلم.

يتبع.. عن أحبار اليوم

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت