بقلم : د.محمد ايت لعميم
” الأرض برتقالة زرقاء ” هكذا تخيل الشاعر بول ايلوار الأرض ، وهكذا سيؤكد هذه الالتماعة التخيلية رائد الفضاء فيما بعد، حين انفصل عن أجوائها ،حيث ظهرت له حقيقة مثل برتقالة زرقاء . وراء هذا التشبيه تتوارى استعارة مائية . فالأرض كوكب ازرق بسبب المياه التي تغطي حوالي 70% من مساحته ما يعادل 1.4 مليار كيلومتر مكعب. 97.2%منها مياه مالحة و 2.8% مياه عذبة ، هذه الحصة القليلة من المياه العذبة تتوزع على الشكل الآتي :
2.15% جليد قطبي ، 0.63 %مياه جوفية ، 0.02 % مياه سطحية ( بحيرات ، انهار سواقي ) 0.01% مياه جوية .
و الجزء الكبير من المياه العذبة على شكل جليد قطبي غير قابل للاستعمال ، ولا يبقى من هذا الجزء العذب سوى 1.4% تستغله ساكنة الأرض الزرقاء ! وهو بالكاد يلبي الحاجيات لأنه قليل ، لغة الأرقام هذه مخيفة تظهر المشكل الحقيقي للحياة المائية فوق كوكب الأرض ، وبالفعل فمستشرفو المستقبل الذين يعتمدون معطيات موضوعية دقوا نواقيس الخطر منذ زمن بعيد للتنبيه و التحسيس بالمخاطر المحدقة بهذا العنصر الحيوي في استمرارية الحياة على هذا الكوكب ، فالدين و الفلسفة و العلم و الآداب و المواثيق الدولية كلما نبهت لقيمة هذه المادة التي هي في أصل حياة الكائنات و الأشياء ، ودعت لتعظيمه و الحفاظ عليه وترشيد استعماله.
لقد كتب عن الماء الشيء الكثير ، واهتم به العرب بشكل واضح فصنفوا فيه كتبا مستقلة ، وما قيل فيه من أشعار و آداب ومن أحكام شرعية ، فكتب الفقه و الأحكام تفتتح به في باب الطهارة كمدخل أساس لكل ما سيترتب عليه .
هذا الموروث المائي و هذه المكتبة المائية تدل دلالة واضحة على إلزامية حمايته وترشيده وعدم تبديده و البحث عن صيغ للحفاظ عليه . فألفة الماء وتوهم وفرته وديمومته تجعل الناس لا تأبه له كثيرا ، ولا يصبح حديث الناس إلا إذا لاحت علامات الجفاف و انحباس المطر ، إذ لا تستشعر الحاجة إليه إلا إذا بدت للعيان مخاطر ندرته .
في هذا السياق الدولي و المحلي لمشكلة الماء أنشأت معلمة بمراكش حول حضارة الماء وهي ” متحف محمد السادس لحضارة الماء /أمان ” بهدف التعريف بحضارة الماء عند المغاربة ، والكيفيات و التدابير التي تعامل بها الأسلاف منذ القديم في الحفاظ على الماء وتدبيره و توزيعه و استغلاله في الفلاحة وكل ماله صله باقتصاد الماء . متحف أنشأته وزارة الأوقاف و أسندت تدبيره لمقاولة مختصة في تدبير الشؤون المتحفية تهتم بالوساطة الثقافية التي تعتبر اختصاصا نادرا في المغرب ( coulours.com) .
حين زرت المتحف لأول مرة غبة افتتاحه ، وتجولت فيه ، اندهشت كثيرا للجماليات التي عرضت بها محتوياته ، فكل شيء فيه مرتب بشكل متناسق ومتناسب ، وقد أصابني تدرج المحتويات في طوابقه الثلاثة بخدر في حواسي لا سيما حين صعدت الطابق الثالث أعجبت كثيرا بالسماء المركبة في السقف بطريقة خلتها سماء حقيقة و السحب تسير فيها . تجولت في تاريخ حضارة الماء بالمغرب ، خطارات ، سواقي ، وديان ، سدود ، نواعير ، طاحونات ، سقايات ، و أدوات الري . لقد عرض الماء في المتحف بطريقة مشهية ، تحس برغبة كبيرة إليه ، لقد خرجت من المتحف بخدر في حواسي ، وكنت مندهشا فرحا ، و أعتقد أن وظيفة المتحف الحقيقية هي صناعة الفرح لزواره ومرتاديه . فرحت لأنني استمعت ، وقلت مع نفسي هذا عمل مغربي رائع وهام ، وإن هذا الانطباع حول أهمية هذه المعلمة المتحفية في مراكش تم عليها الإجماع من لدن المغاربة و الأجانب على السواء .
إن مصداق هذا الانطباع الذاتي صدقته الأرقام وعدد الزوار ، فرغم حداثة نشأة المتحف ولما يكمل عامه الأول ، حقق رقما قياسيا في عدد الزوار بحيث استقطب المتحف 35.000 زائر زاروا المتحف و أطلعوا على محتوياته ، و 20.000 آخرون حضروا الأنشطة الموازية بالمتحف ، هذا الانجاز غير المسبوق في السياحة المتحفية بالمغرب ، لا يمكن أن يكون صدفة ، فلا بد من خطة محكمة للتمكن من استقطاب هذا العدد إذ يبدو أن التصور الذي تشغل به إدارة المتحف هو تصور حديث ، لا ينظر للمتحف باعتباره خزانا تتراكم فيه التحف فقط ، بل ينظر إليه باعتباره فضاء مفتوحا على الجميع يلبي حاجياتهم ويجيب عن انتظاراتهم ومن تم فالمتحف يذهب عند الجمهور لا سيما و أن موضوعة حضارة الماء ليست في متناول الجميع من الوهلة الأولى و أيضا ارتياد المتاحف ليس من صلب التقاليد الثقافية للمغاربة ، فأمام هذا النوع من الإكراهات يتحتم على المتحف أن يبحث عن زواره وزبنائه ، بتنويع الأنشطة و التعريف به وتسهيل الوصول إليه ، علما أن المتحف يوجد في ضواحي المدينة ، إن إكراه البعد هذا قد يقلص من فرص كثرة الزوار ، ومع كل هذا فقد استطاع المتحف ان يحقق قفزة نوعية في وقت قياسي .
إن التصور المتبنى هو تصور المتحف المتعدد الاختصاصات و الاستعمالات ، فإضافة إلى المضمون المتحفي وموضوعة الماء وما يحيط بها ، يقوم المتحف بالتنشيط الثقافي ، بحيث أنجز فيه تقريبا 59 نشاطا ثقافيا أنجزتها جمعيات مختلفة وهيئات و مؤسسات و شركات ، أقيمت ندوات و لقاءات على الصعيد الدولي و مؤتمرات على الصعيد الإفريقي . هذه الأنشطة المدرة للربح تضمن للمتحف زيارات و تستقطب جمهورا مختلفا و متنوعا ناهيك على أنها توفر للمتحف إمكانيات الحفاظ عليه و صيانته .
في هذا السياق عمل المتحف على الانفتاح على المؤسسات التعليمية ، بحيث استقطب المتحف أزيد من 11.00 تلميذا هذه السنة ، إن تربية النشء على التقاليد المتحفية هو من أهم الأولويات التي ينبغي للمتحف أن يعكف عليها ، حتى يتشرب الأطفال و التلاميذ هذا التقليد المتحضر .
لا سيما و أن موضوعة المتحف ( الماء) تدخل في إطار التربية على البيئة ، وهذه القيمة من أهم القيم التي ينبغي غرسها في وجدان التلاميذ ناهيك عن إدخال الأطفال و التلاميذ في أجواء الفرح. إذ يجدر بالمتحف أن يشتغل على هذا الجانب من خلال إنشاء أوراش تربوية داخل المتحف و في المدارس من اجل خلق وعي جديد بضرورة الحفاظ على البيئة و تعظيم الماء بما هو مادة نادرة و مهددة .
وبما أن المتحف نهج سياسة جديدة في تدبير شؤونه ، ففتح المتحف على أنشطة متعددة ، والبحث عن موارد متنوعة سيضمن له الاستدامة و الاستمرارية و الرفع من جودة الخدمات فمن الممكن جعل المتحف فضاء استقطابيا بشكل كبير لا سيما و أنه أنشا فوق واحة نخيل ، وبجانبه ثلاثة هكتارات يرتقب أن تصير حديقة المتحف ستكون بالفعل فضاء للنزاهة و إحياء تقليد استغلال الحدائق . ولم لا توفير مطاعم بداخله لفائدة الزوار فجل المتاحف في العالم توفر هذه الخدمات لروادها ، لقد زرت مؤخرا متحف ” شارلي شابلن” بمدينة فوفي بسويسرا ، واسترعى انتباهي ان الزوار فور انهاء زيارة المتحف يجلسون في مقهى و مطعم المتحف ، كل شيء غاص بالناس ، المتحف و ساحته و المطعم والمقهى، هذه الأشياء تضفي نوعا من الحياة و الحيوية في مثل هذه الفضاءات فالمتاحف المشهورة عالميا هي فضاءات تبحث عن مصادر وموارد إضافية لتؤمن الديمومة والاستمرارية والصيانة و الحفاظ على المنشأة المتحفية ، فليس المتحف بناية وتحفا جامدة يخيم عليها الصمت الابدي بل هي فضاء حيوي و يضج بالحياة و الفرح و الإسعاد .
الاستراتيجية التواصلية التي تسلكها إدارة المتحف ستمكن هذا المنشأة من أن يصل صداها إلى الجمهور العريض الذي لا يأبه لمثل هذه الثقافة ، إذ دور المتحف هو خلق الجمهور و إحداث الرغبة و الاهتمام لديه . ما أحوج المدينة و المدن المغربية لمثل هذه المتاحف التي أبانت عن كفاءة عالية في التدبير و الأداء جعلته يعتلي من حيث الزوار المراتب الأولى رغم حداثة سنة .