يعود الملك محمد السادس مرة أخرى ليعطي المسؤولين عن تدبير الشأن العام ببلادنا درسا بليغا في منهجية الاشتغال، الواجب اتباعها كلما تطلب الأمر معالجة ملفات كبرى واتخاذ قرارات حاسمة، بعيدا عن الارتجال والعشوائية والحلول الترقيعية. فقبل إقرار الترخيص للمرأة بولوج مهنة “عدل”، كلف وزير العدل محمد أوجار في وقت سابق بدراسة الموضوع، مع إحالته على المجلس العلمي الأعلى لإبداء الرأي. وبعد أن حسم المجلس الجدل في أهلية المرأة وتأكيدة مشروعية مباشرتها لمختلف العقود، انسجاما مع ما باتت تتوفر عليه من مستوى علمي وكفاءة مهنية وتوليها أهم المناصب، عاد ليكلف الوزير بفتح خطة العدالة أمامها، واتخاذ ما يلزم من تدابير كفيلة بتحقيق هذا الهدف.
ويأتي حديثنا هذا بمناسبة عودة الجدل الحاد منذ الولاية التشريعية السابقة حول إلغاء مجانية التعليم، الذي تتذرع الحكومة بكون رسوم التسجيل المقررة لن تشمل عدا “الأسر الميسورة”، دون الإدلاء برسم تقريبي لملامح هذه الأسر المعنية، حيث خرج رئيسها سعد الدين العثماني لمحاولة إيهام المواطنين بأن المجانية ستظل خطا أحمر. ومن المؤكد أن “إقبار المجانية” إجراء خطير سيكون له ما بعده، خاصة أنه لم يعتمد على أي دراسة علمية مسبقة ومعمقة أو تصور شامل ومتكامل، تتشكل بمقتضاهما أبرز المعايير في تحديد مواصفات هذه “الأسر الميسورة”.
فمشروع القانون الإطار رقم 51.17 المصادق عليه، والمرتبط بإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، خصص في أحد أبوابه المتعددة بابا يقضي بتنوع مصادر تمويل التعليم وإنهاء المجانية، مؤكدا على ضرورة “تفعيل التضامن الوطني والقطاعي من خلال مساهمة جميع الأطراف والشركاء المعنيين”، ومشددا على أهمية مساهمة “الأسر الميسورة” إلى جانب الجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية والقطاع الخاص. وتتبجح الحكومة أنه بموجب هذا القانون “تضمن الدولة مجانية التعليم الإلزامي، الذي يهم التعليم الأولي للأطفال المتراوحة أعمارهم بين 4 و6 سنوات، والتعليم الأساسي والثانوي الإعدادي إلى حدود 15 سنة”. وأنه طبقا لمبادئ تكافؤ الفرص، سيتم تمويل التعليم بصفة تدريجية، عبر إقرار رسوم التسجيل بالجامعات في مرحلة أولى، ويليه في مرحلة ثانية التعليم الثانوي التأهيلي، وفق الشروط والكيفيات المحددة لاحقا بنص تنظيمي، مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى الدخل والقدرة على الأداء”.
قد يكون ممكنا استهداف الجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية والقطاع الخاص، كما قد يسهل الاتجاه نحو فرض ضريبة على الأثرياء والمستفيدين من اقتصاد الريع في التمويل، غير أنه يصعب القول بأن الأمر يستهدف “الأسر الميسورة” وحدها دون تحديد معالمها، وهو ما جعل الموضوع يأخذ أبعادا كبيرة وتشعبات كثيرة، بعد أن ظل مفهوم اليسر هنا مبهما، مادامت الجهات الرسمية نفسها عاجزة إلى الآن عن تقديم إطار مرجعي للتصنيف الاجتماعي وفرز “الأسر الميسورة” عن غيرها.
ولنضرب مثلا على ذلك بتقرير مؤسسة مالية بريطانية لعام 2017 حول اقتصاديات الدول وعدد أثريائها ومؤشرات توزيع الثروة بها، يشير إلى أنه يوجد بالمغرب 4600 أسرة ميسورة سنة 2016. وفي دراسة علمية سابقة لمؤسسة دولية أخرى صدرت سنة 2014، نجد أن مجموع الأسر الميسورة كان هو 5 آلاف أسرة، ولا توجد في المقابل إحصائيات رسمية محلية تكشف عن العدد الحقيقي لمجموع هذه الأسر حاليا، حيث تكتفي المندوبية السامية للتخطيط بنشر تقارير سنوية عن أعداد الفقراء دون غيرهم… ثم كم هي نسبة الذين يستكملون دراساتهم العليا بالجامعات العمومية من أبناء الميسورين؟
وبينما يدعي أعضاء من المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الذي سهر على إعداد الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015l2030، عدم معرفتهم بالمقاييس الممكن اعتمادها في تحديد الأسر المعنية بالمساهمة في التمويل أو تلك التي سيتم إعفاؤها، وأن صلاحية الحسم متروكة للحكومة وحدها باعتبارها سلطة تنفيذية. هناك من يقول من داخل الحكومة بأن المعايير ستكون دقيقة، حتى يمكنها مراعاة الفوارق الاجتماعية والمجالية، لأن موظفا يتقاضى مثلا 10 آلاف درهم بمدينتي الرباط أو الدار البيضاء، ليس هو من يتقاضى نفس المبلغ بمدن أخرى… وهناك من يتحدث عن دخل شهري إجمالي لا يقل عن 20 ألف درهم حسب تصور أولي، وهناك أيضا من يقول بإمكانية رفعه إلى سقف 30 ألف درهم، وأن الرسوم الواجب استخلاصها لن تتخطى في أحسن الأحوال ألف درهم سنويا.
وفضلا عما سيحمله النص التنظيمي من شروط وكيفيات ستحددها الحكومة لاحقا وتصبح ملزمة للجميع. فإن أشد ما يتخوف منه المغاربة، هو أن تظل عبارة “الأسر الميسورة” مجرد مسألة تمويهية لإخفاء عديد الحقائق، كما كانت مقولة “التماسيح والعفاريت” في الحكومة السابقة، لاسيما أن أبناء الميسورين يتوجهون للمدارس الخصوصية والبعثات الأجنبية أو الالتحاق بالمعاهد العليا بالخارج…
إن أزمة المنظومة التعليمية ليست مرتبطة فقط بمشكل التمويل، بل هناك عديد الاختلالات البنيوية والهيكلية، يستدعي تجاوزها توفر الإرادة السياسية وتفعيل الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة… وإذا كان التمويل ضروريا للتخفيف من عبء الميزانية العامة، فليتم البحث عن مصادر خارج جيوب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، التي أرهقها ضرب قدرتها الشرائية والقرارات اللاشعبية للحكومتين السابقة والحالية. فلا يمكن النهوض بنظامنا التعليمي إلا في إطار الحفاظ على “مجانية التعليم”، التي لم تكن متوفرة بالكامل كما يتوهم الكثيرون، إذ ما انفك المغاربة يساهمون في التمويل عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة… وقد يبادرون إلى المزيد من التضحية وأداء رسوم إضافية، إذا ما تم الحرص على إعادة الثقة لهم عبر تجويد المنتوج التعليمي بالقطاع العمومي.
اسماعيل الحلوتي