عندما أقدم الملك محمد السادس يوم 24 أكتوبر 2017 على تنفيذ ما وعد به من “زلزال سياسي”، في خطاب 13 أكتوبر 2017 بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأولى، باتخاذه مجموعة قرارات جريئة لم يشهد لها تاريخ المغرب المستقل مثيلا، تم على إثرها إعفاء ومعاقبة وزراء وموظفين سامين وحرمان وزراء سابقين من تولي أي مهام رسمية مستقبلا. وما تلاه من ارتدادات عصفت بعدة رؤوس من مختلف الفئات في أم الوزارات، بموجب تقارير لمفتشيتين عامتينوالمجلس الأعلى للحسابات كشفت عن اختلالات وتقصير في أداء الواجب وعدم الالتزام بإنجازبرامج تنموية هامة، منها ما أشرف هو شخصيا على توقيع اتفاقياتها، وما نجم عن ذلك القصور من احتجاجات شعبية واسعة وصاخبة في شتى المناطق. اهتزت فرائص مسؤولين كثر وباتوا يتحسسون رؤوسهم، فيما استبشر المواطنون خيرا بهذا “الزلزال” المبارك، يحذوهم الأمل الكبيرفي طي صفحة التساهل والإفلات من العقاب، والقطع مع كافة أشكال الفساد والتسلط والاستهتار، والتأسيس لعهد جديد قوامه الصرامة والجدية وإنفاذ القانون بغير تمييز.
فكيف إذن لا يشعر المغاربة بالانشراح وتغمر البهجة قلوبهم، ويتفاءلون خيرا بمثل هذه الزلازل التي تدك جبال الفساد وتطهر الأرض من الطفيليات السامة؟ لقد كبر حلمهم وتزايد الأمل بالغد الأفضل، وهم يرون سيف المحاسبة مسلطا على الرقاب، لاسيما أن معظم مناطق البلاد تعاني من الفقر والهشاشة والظلم والمهانة والتهميش والإقصاء، ومن ضمنها مدينة الفوسفاط، اليوسفية.
ولمن لا يعرف إقليم اليوسفية، فقد أحدث خلال عام 2009 باقتطاع مفاصله من الأقاليم المجاورة، تابع لجهة مراكش– أسفي، تبلغ مساحته 25,50 كلم مربع ولا يتجاوز عدد سكانه حوالي70 ألف نسمة. يحده في الجزء الجنوبي الشرقي من الشرق والشمال الشرقي إقليما مراكش والرحامنة، ومن الشمال إقليم سيدي بنور، ومن الجنوب الغربي والجنوب الشرقي إقليما الصويرة وشيشاوة. ولم يكن في بدايته سوى جزء من نجد “الكنتور” لمجموعة هضاب مرتفعة وسهول، قبل اكتشاف الفوسفط سنة 1931 من طرف جيولوجي فرنسي من رموز الاستعمار، ظلت المدينة تحمل اسمه (لويس جونتي Louis Gentil) طوال عقود، قبل أن تعود لتحمل اسم “اليوسفية” مع فجر الاستقلال، تيمنا باسم السلطان العلوي: المولى يوسف رحمه الله.
ورغم ما لعبه المجمع الشريف للفوسفاط من دور هام، باعتباره شريكا أساسيا للجماعة الحضرية، بفتح مجموعة من الأوراش وإنجاز عدة مشاريع، فإنها لم ترق إلى مستوى انتظارات وتطلعات السكان. إذ لايعقل تهميش مدينة تشكل صادراتها من الفوسفاط أزيد من 33 بالمائة من إجمالي صادرات المغرب، الذي يمثل 80 بالمائة من الاحتياطي العالمي. وهي التي كانت تسمى في عهد المستعمر “مدينة الدولار” أو “باريس المغرب”، لما تزخر به من ثروة باطنية وتملكه من قوة اقتصادية كبيرة. فمن يا ترى يزدرد خيراتها؟ أليس من العار أن تهوي منطقة منجمية غنية، تعتبر عصب الاقتصاد الوطني، إلى الدرك الأسفل بين المناطق الأكثر بؤسا وشقاء، على مستوى الفقر والأمية والبطالة والتلوث البيئي، لا لشيء سوى أن حظها التعس رمى بها بين أيدي سماسرة الانتخابات ولوبيات الفساد ومنعدمي الضمير، ممن يستعملون المال الحرام ويتلاعبون بعقول الضعفاء ويدغدغون عواطفهم بالشعارات الزائفة، ويستهترون بالمصلحة العامة. حيث تعاقبت عدةمجالس على تدبير الشأن المحلي، ولم تتغير الأمور إلا للأسوأ وبات من الوهم نشدان تنمية شاملةفي ظل نفس الأحزاب ونفس العقليات ونفس السياسات العمومية الخائبة.
فما يحز في النفس أن يتراجع مستوى الإقليم فور طرد المحتل، ويصبح العابثون بالخيرات هم أبناء الوطن من مسؤولين إداريين ومنتخبين، لغياب روح المواطنة والحس بالمسؤولية، وانشغالهم التام عن هموم وقضايا المواطنين بمصالحهم الشخصية. حيث ساءت أحوال الناس وتضببت صورة المدينة، لعدم وجود برامج تنموية واستراتيجيات مواكبة لسيرورة التحول، ومشاريع اجتماعية واقتصادية وثقافية وبيئية، فتناسلت الفضائح والاختلالات في تدبير الشأن المحلي، تكاثرت الخروقات المالية وطال الفساد كافة المجالات الاجتماعية والإدارية والصحية… وأمست الخدماتالاجتماعية خاضعة للابتزاز والمحسوبية والرشوة. فأي جحيم أفظع مما بات يعيشه المواطن الفقيروالعاطل والأمي والمريض…؟
من المجحف بقاء مشاريع معلقة منذ الزيارة الملكية عام 2009، وتعثر أخرى رصدت لها ميزانيات ضخمة من أموال دافعي الضرائب، بسبب التهاون وانعدام الشفافية والصفقات المشبوهة وغياب المراقبة الصارمة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتواصل مسلسل التهميش والإقصاء واستنزاف الموارد الجماعية، دون معالجة الأوضاع المتأزمة وتوفير البنية التحتية ودور الشبابوالمركبات السوسيو رياضية للقرب… في وقت يتميز الإقليم بخصائص سياحية واقتصادية وفلاحية، من شأنها إحداث نهضة تنموية حقيقية لو توفرت الإرادة القوية واستثمرت عائدات الفوسفاط في الاتجاه السليم. وخلق دينامية اقتصادية جديدة لإيجاد فرص شغل للعاطلين، حل المشاكل البيئية والاهتمام بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية والصحية للساكنة.
ألم يكن حريا بأصحاب القرار والمسؤولين إعطاء انطلاقة قطار التنمية ليس فقط بإقليم اليوسفية، بل في جميع المناطق والأقاليم مباشرة بعد أن دق الملك ناقوس الخطر، في خطاب 30يوليوز 2014 بمناسبة الذكرى 15 لاعتلاء العرش، متسائلا عن مآل الثروة؟ فإقليم اليوسفية اليوم في حاجة ملحة إلى نموذج اقتصادي متكامل ومتوازن، يأخذ بعين الاعتبار المقومات والإمكانات الأساسية المتوفرة، لمواجهة مظاهر الفقر والهشاشة والأمية والبطالة… فهل ننتظر أن تمسه ارتدادات “الزلزال السياسي”، لتحقيق النماء والرخاء وإعادة الكرامة المفقودة للمواطن”ة”.
اسماعيل الحلوتي