الحفاظ على الثقافة المغربية والخبرة اليهوديّة

الحفاظ على الثقافة المغربية والخبرة اليهوديّة

- ‎فيرأي
261
0

 

بقلم : الدكتور يوسف بن مئير
رؤية المغرب للاستدامة
في المملكة المغربية عدد من برامج وسياسات التنمية المستدامة التي تبيّن الإبتكار وتعزز التضامن الإجتماعي. وتهدف هذه المبادرات الديمقراطية التشاركية إلى تحفيز تنمية الناس التي تلبي الاحتياجات الإنسانية المتعددة في نفس الوقت.

على سبيل المثال، يتطلب ميثاق الدولة للبلديات تطبيق أساليب تشاركية للتخطيط الشامل للمشاريع المجتمعية. ویمکن من خلال ذلك أن تتمكّن المشاريع الجديدة من التطرق إلی العوامل والأھداف الاقتصادیة والبیئیة والاجتماعیة في منطقة معینة. ومثال آخر ھو خارطة طریق اللامرکزیة في المغرب التي تسخّر في تصمیمها الموارد على المستویین الوطني والإقلیمي من أجل تحقیق أولویات التنمیة المحدّدة محليّا ً.

وتجسيداً لنهج التنمية المتكاملة المغربيّة هو طريقها المختارة للحفاظ على ثقافتها. ووفقاً لبيانات ورؤية جلالة الملك محمد السادس، فإن الإجراءات المتعددة الثقافات ينبغي أن تؤدي مباشرة إلى نتائج التنمية البشرية.

وهذا يعني أن الحفاظ على المؤسسات الثقافية المغربية والمواقع والصناعات اليدوية المبتكرة يقصد أيضاً في نفس الوقت تعزيز حياة الناس بطرق قابلة للقياس، مثلاً في التعليم والدخل والصحة.. ومن حيث الجوهر، يجب أن تتقدم الأنشطة الثقافية في وقت واحد جنبا إلى جنب مع تنمية الناس.

ومنذ عهد حكمه في وقت مبكر، أيد ملك المغرب فرضية دمج التنمية الثقافية والمستدامة في حركات واحدة. فموقف المملكة فيما يتعلق بتحالف الحضارات، على سبيل المثال، يجسد الكيمياء الطبيعية للإجراءات التي تتسم بالتعدد الثقافي والتنموي، وكذلك في حالة التحالف – الذي يهدف إلى تحسين التعاون بين الأمم. وكما أوضح الملك محمد السادس في عام 2008: “إن هذه الرؤية تتمثل في التأكد من أن الثقافة بمثابة قوة دافعة للتنمية، فضلاً عن كونها جسر للحوار”.

إعادة تأهيل المقابر اليهودية المغربية
ومن الأمثلة الواضحة التي تحدث داخل المغرب (حيث المحافظة على الثقافة والنهوض برفاه الناس تعمل بشكل مستمر) فيما يتعلق بالمشروع الوطني الذي انطلق في عام 2012 لإعادة تأهيل المقابر اليهودية. فهناك ما يقرب من 600 “قديس” عبري مدفونين في جميع أرجاء المملكة. العديد منهم يرقد بسلام منذ ألف عام ٍ أو أكثر، وكان 167 من هذه المواقع جزءا من جهود الحفاظ على التراث الوطني. ومن المهم هو أن الجالية اليهودية بدأت أيضا ً (انطلاقا ً من مراكش) في عام 2012 بإقراض أرض لمؤسسة الأطلس الكبير – وهي مؤسسة غير ربحية مغربية – أمريكية – بالقرب من سبعة من المدافن المقدسة من أجل زراعة مشاتل شجر الفاكهة العضوية لصالح الأسر الزراعية والمدارس. وبدأت الجهود المحلية الأولية للحفاظ على المقابر اليهودية واقتراض الأرض لمشاتل الأشجار المجتمعية في التسعينات، ومنذ ذلك الحين تم العمل على نطاق واسع.

وبالنظر إلى أن معظم الفقر في البلد (وفي العالم) موجود في الأماكن الريفية وأن المزارعين المغاربة بدأوا يتحولون من زراعة الشعير والذرة التقليدية، فإن الطلب على أشجار الفاكهة التي تدرّ ربحا ً أكبر هو أمر مهم جدا. إن زراعة أشجار الفاكهة من الشتلات التي تُنتج من الأرض التي يقدمها اليهود المغاربة وتوزيعها عيناً بدون مقابل على المجتمعات الريفية المهمشة لا تفي بأولوية التنمية فحسب، بل هي أيضا من أعمال الأديان الخيريّة. إن إعادة تنشيط العلاقات بين أسر المزارعين المسلمين وأعضاء المجتمع اليهودي يؤدي إلى تعميق التقدير بين المستفيدين من هذه المواقع التاريخية الدينية (هذا فضلا ً بالطبع عن احترام هذه المواقع منذ نشأتها). وهذه المبادرة متعددة الثقافات تضفي المزيد من النوايا الحسنة بسبب نتائج التنمية المستدامة، وبالتالي زيادة الوحدة الاجتماعية وإجراءات الحفظ. ومع ذلك، فإن ما يزيد من مقياس التضامن (والاستدامة) هو أن المجتمعات الزراعية نفسها حددت الأشجار المثمرة وأصنافها كأولوية إنمائية. ولذلك، فإن المشروع يستجيب للاحتياجات المعلنة للشعب ويساعد على تحقيق النتائج التي يسعى إليها الناس، مبينين كيف أنّ المنافع الثقافية بمقدورها أن تزداد عندما تندمج التنمية البشرية التشاركية تماما في عملياتهم.

“ملاّح” مراكش والاستمرارية اليهودية
والآن، دعونا ننظر إلى إعادة تأهيل “الملاح”، الحي اليهودي الذي يشير المؤرخون على أنه ذُكرلأول مرة في مراكش خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. إن التجربة اليهودية في المغرب، وبالتأكيد في مراكش، مع كل دوراتها وفتراتها، يمكن وصفها بأنها جديرة جدّا ً بالإهتمام طيلة عمرها ونوعيتها.وهناك باحثون مثيرون للإعجاب كرّسوا أنفسهم لفهم – بشكل محدد وموضوعي – ما حدث في مراكش فيما يتعلّق بالحياة اليهودية، والفكر، والتطور الثقافي والممارسة والمحاكمات والإمتدادات الرئيسية للتعددية السلمية. أنا شخصيا لم أعط هذا المستوى من الإعتبار للتطورات الاجتماعية التي تشكل الرواية اليهوديّة – المراكشيّة. وعلى أية حال، يمكن للمرء أن يقول إلى حد ما أن الحياة اليهودية في مراكش كانت غنية بشكل لا يصدق، معقدة، غير خطية، مفعمة بالأمل ومؤلمة ومستمرة حتى هذه اللحظة بالذات. ولذلك، فإن مبادرة الحفاظ على هذه التحفة الاجتماعية الحية والمتطوّرة جديرة بشكل استثنائي، وعمل يتناسق تماما مع الهوية المغربية والدستور.

كثيرا ما طرحت هذه المسألة، لماذا المغرب؟ عاش اليهود لعدة آلاف من السنين في دول الشرق الأدنى، لكنهم لم يعودوا يفعلون ذلك، ولكن في المغرب لا يزالون حتى يومنا هذا، وقد دعوا للعودة إذا غادروا. عندما يبدو أن التخريب والعنف والرفض يميز التجربة اليهودية بدرجات متفاوتة في فترات ٍ مختلفة في كثير من دول العالم، يمكن للمرء أن يسأل لماذا لم يكن هذا هو الحال في المغرب.هذا السؤال على مستوى واحد قد يكون من الصعب الإجابة عليه كالسؤال عن السبب استمرار الشعب اليهودي في الوجود كمجموعة متماسكة في العالم. لماذا يُعتبر المغرب منزل مستمر وباق ٍ عندما توقفت دول أخرى أن تكون كذلك ؟ هذا السؤال قد يدعو إلى تفسير مقصور على فئة معينة، أو مجرد قبول بأنّ على المراقبين حتى الآن أن يفسروا تماما الإستثنائيّة المغربية اليهودية.

أحد التفسيرات “الصوفية” التي تساهم في الرابطة المغربية اليهودية العميقة تعود إلى آخر “لوبافيتشر ريب”، الزعيم اليهودي الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، الحاخام الراحل مناحيم شنيرسون (1902- 1994). ففي رسائل نقلت بين “ريب” وجلالة الملك الراحل الحسن الثاني (1929-1999)، أدلى “ريب” بتصريحات إيجابية بشأن استمرار أمن المملكة وكونها موطنا للشعب اليهودي بسبب القديسين العبريين (الذين أشير إليهم أعلاه) الذين دفنوا في أرضها. في الواقع، وجود القديسين المدفونين هو الذي دفع على وجه التحديد الحاخام “ريب” إلى مساواة قداسة أرض المغرب بأرض إسرائيل. هذه التأكيدات من “ريب” تتفق مع محادثاتي (في عام 2016) مع سيرج بيردوغو، الأمين العام للجماعة اليهودية المغربية وفيما بعد المحاور بين” ريب” والملك الحسن الثاني.

هناك عاملان علميان اجتماعيان مهمّان يفسران الخبرة المغربية اليهودية وهما، كما يبدو واضحا: قيام ملوك المغرب بوضع رؤى وتوقعات تاريخية لا غنى عنها على الإطلاق للاستمرارية اليهودية والاتصال الذي لا يمحى بين اليهود المغاربة والوطن، حتّى بعد وقت ٍ طويل من نقلهم إلى أماكن أخرى. وأشير إلى مثال آخر على ذلك هو الطريقة التي قام بها جلالة الملك الراحل محمد الخامس بحماية اليهود المغاربة في مواجهة الاضطهاد النازي خلال الحرب العالمية الثانية – إنه عرض للحنكة السياسية على مدى العصور.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الشعب المغربي وقبول الثقافة التي برزت منه في نهاية المطاف هو عنصر حيوي يساعد على شرح الرواية المغربية- اليهودية.هذا يعني بان الشعب وملوكه وضعوا المعيار الذي نظّم هذا النوع من الحياة الذي يسمح ببقاء اليهود المغاربة حتى اليوم. “الملاّح” والمحافظة عليها ثمرة “طبيعية” من الماضي والحاضر. ومرة أخرى، فإن حقيقة أن القطاعين العام والمدني المغربيين يعترفان ويتمسكان باستمرار بهذا البعد من الثقافة هو في حد ذاته سمة مغربيّة.

تقييم إعادة إحياء “الملاّح”
وفيما يتعلق ببعد التنمية البشرية في إعادة تأهيل ملاّح مراكش، يمكن للمرء أن يبدأ أولا بالقول بأن المبادرة تخدم بوضوح حافزا اقتصاديا قصير الأجل عن طريق الاستثمار في العمالة والمواد اللازمة لتصميم وإعادة بناء المنطقة. وإعادة بناء البنية التحتية هو شكل من أشكال التنمية البشرية القابلة للقياس. ولا عجب إذن أن يكون لدى سكان الملاح بشكل ٍ عام نظرات إيجابية على المبادرة.

وعلى أية حال، عند النظر للأمر بمنظور إنمائي تشاركي، هناك أسئلة أخرى ينبغي النظر فيها، مثل: كم عدد السكان المحليين ورابطاتهم / جمعيّاتهم الذين شاركوا في التخطيط لإعادة تأهيل حيّهم؟ كم عدد السكان المشاركين في تحديد أولويات المواقع الذي سيتم تجديده ؟ هل كان للمقيمين صوت في إنشاء التصاميم الجديدة للمناطق العامة؟ هل كان السكان المباشرون على علم ودراية بمعنى الأسماء اليهودية والعبرية القديمة للشوارع وأسباب إعادتها ؟

ففي المدينة الساحلية المغربية الصويرة ، على سبيل المثال، شاركت الجمعيات المحليّة بشكل كامل ( مرة أخرى بأعمال التيسير التي تقوم بها مؤسسة الأطلس الكبير ) في اختيار المواقع التاريخية والدينية المحددة التي تتطلب إعادة التأهيل. وساعدت المشاركة الشاملة على طرح الفكرة – كما ساعدت على إقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص – لتمكين التجديد المقترح للكنيسة البرتغالية لتوفير المساحة لورش عمل المجتمع المدني ومكاتبه وكذلك منطقة لعرض الحرف اليدوية والإبتكارات.فهنا يوجد حلقة وصل بين الحفاظ على الثقافة والنهوض المستمر بالتنمية البشرية، وهذا من شأنه أن يستمر بشكل ٍ جيد بعد انتهاء عملية التعمير.

وإذ نقترح إعادة تأهيل مدينة الصويرة كنموذج وتطبيقها على تجديد ملاح مراكش، فإننا نحتاج إلى تقييم ما إذا كانت الهياكل أو الإنشاءات التي تمت إعادتها توفر حيزاً للمجتمع المدني وتواصل تعزيز التنمية المستدامة.هل يخلق إعادة بناء “الملاح” موجة من اجتماعات المجتمع المحلي حيث شارك السكان المحليون في تخطيط وتصميم المشاريع التي تلبي احتياجاتهم؟ هل نحن بصدد الوقوف على تحول إنمائي متواصل مدفوع بزيادة التضامن والفرص الجديدة ؟ هل هناك مشاريع لاحقة أو غير مباشرة من شأنها أن تنبثق من مشاركة الناس الواسعة، وبالتالي توليد مضاعف لمقدار الاستثمار للحفاظ على الثقافة ؟

من الصعب للغاية، ولكن ليس من المستحيل، إشراك الناس في تحديد الأهداف بعد أن تكون عملية التنمية في عمق التنفيذ. وحسب فهمي، فإن الملاح كان حتى الآن حافزاً جيدا ً للإقتصاد والدعاية، إلا أن تأثير الدومينو المطلوب للتنمية الجارية التي يقوم به السكان المحليون ومنظماتهم المدنية هو أقل بكثير من المستوى الأمثل. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن مشاركتهم لم تجر بشكلٍ كاف ٍ منذ بدء برنامج إعادة التأهيل.

وعلى أية حال، هناك رغبة قوية لدى الشركاء المحليين لتسهيل مشاركة الناس في بعد التنمية البشرية لترميم الملاح. على سبيل المثال، خلال شهر رمضان المبارك القادم في التقويم الإسلامي (من 26 مايو وحتى 25 يونيو)، تنظم الجالية اليهودية في مراكش و”جمعية ميمونة” للطلبة المسلمين المغاربة بالإشتراك مع مؤسسة الأطلس الكبير إفطارا ً للسكان المحليين كل يوم اثنين وخميس عند الكنيس اليهودي “سلات لازاما” الذي يبلغ عمره 400 عاما والواقع في منطقة “الملاح”. وستعقب هذه الوجبات مناقشة المجتمع المحلي وتحديد المبادرات الإجتماعية والإقتصادية والبيئية الأساسية الجديدة للسكان المحليين.

وأخيراً، فإن حالة “الملاح” تذكرني بملاحظة غالبا ما يقوم بها المرء عند مساعدة التنمية الاجتماعية في المغرب وهي أنّ: المملكة تقدم نماذج قوية ومثالية للنمو المستدام والمشترك، مدفوعاً إلى الأمام بالطريقة التشاركية. ولحسن الحظ، فإن النهج التشاركي مقنّن في قوانين وسياسات وبرامج. ومن ناحية أخرى، يظل من الصعب تحقيق التنفيذ الواسع النطاق على نحو فعّال بما يتفق تماما مع الرؤية التشاركية التي وضعت لتوجيه هذه الإجراءات. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن المهارات اللازمة لتنظيم وتيسير التخطيط التعاوني المحلي ليست منتشرة بما فيه الكفاية، وأن نظام الإدارة المركزية ما زال راسخا ً بشكل جيد.

إن الأمة واحدة من الآمال بسبب ماضيها وحاضرها ومثاليتها والتزامها بالاستدامة. ومع ذلك، فإن التحدي الذي يواجهه المغرب، بمفهوم ٍ ما، تواجهه جميع الدول التي تسترشد بالمثل العملية: وهي تجسيد بوعي – الفعل تلو الفعل – القيم التقدمية التي تهدف إلى رسم مسار التنمية الوطنية الآن وفي المستقبل.
__________________________________

الدكتور يوسف بن مئير هو عالم اجتماع ورئيس مؤسسة الأطلس الكبير، وهي منظمة غير حكومية مكرسة عملها للتنمية المستدامة

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت