تمهيد
بعد نهاية الانتخابات التشريعية لسنة 2016، والتي أعطت التفوق من جديد لحزب العدالة والتنمية، فإن الأسئلة التي تطرحها ذاتها، ونحن على أبواب تنصيب حكومة جديدة، هي: هل غيرت هذه الانتخابات شيئا؟ هل سيجد قطار الإصلاح الحكومي أخيرا طريقه؟ ماذا ستكون عليه طبيعة الحكومة وهل ستعيد إنتاج الحكومات السابقة من حيث نوعية الأعضاء والهيكلة والاختصاصات وبرنامج العمل وأسلوب الأداء..، أم أنها ستشكل قطيعة مع هذه الحكومات، ومع ذاتها؟
إن غايتنا ليس تقديم إجابة عن مثل هكذا تساؤلات، بقدر ما نروم الوقوف عند أهم معالم التجربة الحكومية في المغرب. وهذا، انطلاقا من فرضية أسياسية ترى أن للمغرب نسقه السياسي، الذي يسود فيه الملك ويحكم، وأن الحكومة تساعده، بغض النظر عن ألوانها السياسية (يمينية كانت أم يسارية أو إسلامية)، بما يطرح عددا من الإشكاليات والأسئلة حول ممكنات الإصلاح الحكومي وآفاقه.
هذا ما تجسد في تاريخنا الراهن في عهدين هما: العهد القديم 1956-1998، والعهد الجديد 1998-2016، المفتوح على آفاق التجربة الحكومية المقبلة.
1- العهد القديم
إذا تجاوزنا مسألة المنجزات، واكتفينا بالوقوف سريعا على الخصائص العامة للحكومة خلال الفترة المعنية، نرى أنها تتعلق بثلاث مجالات: سياسية-دستورية، وبنيوية-هيكلية، وتنظيمية-تدبيرية.
سياسية-دستورية
تبدو وضعية الحكومة ملتبسة في النسق السياسي المغربي المعاصر. وهي مسألة تظهر عموما من خلال مكونات الحكومة واختصاصاتها وبرنامجها.
* مكونات الحكومة: الحكومة في المغرب، حسب الدستور، هي “حكومة جلالة الملك “. وهي تضم ، حسب الدساتير الأولى (قبل 2011)، الملك إلى جانب الوزير الأول والوزراء. وقد حدد الفقه الدستوري أبرز سلبياتها في: أنها تعطي مكانة مركزية للملك ولا تحدد لذلك المسؤولية السياسية. ولا دور دقيق لوزيرها الأول ووزرائها، كما لا مجال واضح لتدخل الحكومة.
* اختصاصات الحكومة: تتسم عموما بالغموض، كما ذكر، على اعتبار أنه إذا كان رئيس الحكومة يتقاسم نظريا الاختصاصات التنظيمية مع الملك (دستور 1962) ويتحمل مسؤولية التنسيق بين الوزراء فإن ارتباط صلاحيات حكومته ببعض صلاحيات المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك، جعل من الصعوبة بمكان تحديد دوره في النسق السياسي المغربي.
* البرنامج الحكومي، هو من اختصاص رئيس الحكومة مبدئيا، غير أن مسألة تحديده تطرح مسألة المسئولية السياسية (من المسئول عن هذا البرنامج بداية ونهاية)، لاسيما في ظل “ملكية تنفيذية” لها سلطة القرار، وفي ظل حكومة ائتلافية غالبا ما تتنصل أغلبيتها عن المسؤولية السياسية لحصيلتها عند نهاية مدتها. وبرلمان عاجز، لا يملك إلا التزكية ومنح الثقة للحكومة.
هذا ما طرح عدة أسئلة منذ وقتها حول من يمارس السلطة التنفيذية: هل القصر أم الحكومة، وما الذي يدخل أو لا يدخل ضمن المجال الحكومي، ومدى تداخل مجال الحكومة مع مجال القصر، ومدى انتماء وزراء السيادة إليها، ومدى تبعية كل الوزارات إلى هيكلتها، ومدى تحكم الحكومة في بعض الهيآت أو المجالس العليا وحريتها في وضع برنامجها الحكومي وتنفيذه..؟
ب- بنيوية-هيكلية
وهي ما يتعلق بطريقة تعيين أعضاء الحكومة، وإشكاليات الانسجام الحكومي والتنظيم والتدبير والتمثيلية والرقابة والاتصال.
* التعيين الحكومي: إذا تجاوزنا المرحلة الانتقالية المضطربة 1956-1961، فإن أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها خلال هذه فترة 1961-1998 هي: أن تكوين الحكومة لا يرتبط أبدا بنتائج الانتخابات. وأن معايير تكوين الحكومة تقوم على عنصر الولاء والاستقطاب قبل كل شيء (وليس الكفاءة) ، وأن الملك هو الذي يعين أعضاءها، بما فيهم الوزير الأول، كما يعين في المناصب السامية.
* التمثيلية السياسية: تميزت عموما بنقصها وإقصائها الطويل لعدد من المكونات السياسية (التابعة للحركة الوطنية واليسار) والاجتماعية (مثل الشاب والنساء)، وجل الإثنيات والثقافات ( الأمازيغ، الأفارقة..) وعدد من الأقاليم أو جهات المملكة ( غلبة أقاليم فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش على باقي المناطق فضلا عن غلبة الوسط الحضري )، وعدد من أنواع الأطر والتخصصات.
* الانسجام الحكومي: يفيد أن الملك عادة ما يترأس حكومة ائتلافية (مكونة من السياديين والتكنوقراط والحزبيين..)، والتي تنحصر فيها مهمة الوزير الأول في “التنسيق” بين أعضائها (الذين عاد ةما يفضلون التعامل مباشرة مع الملك). وهذا، مع ثقل وزارات مقارنة بأخرى (مثل وزارة الداخلية)، وضعف التنسيق المركب (بين الوزارات، وبينها وبين المؤسسات الخاضعة لها، وبين الحكومة والولاة والعمال، وبينها وبين الجماعات المحلية) ما يجعلنا في النهاية أمام حكومة مفككة سياسيا وتنظيميا.
* إشكالية هيكلة الدولة، والتي تجلت في مظاهر شتى مثل: تضخم عدد الوزراء، الذي عادة ما يفوق ثلاثين وزارة (دون مبرر عقلاني لذلك غير “الريع السياسي”)؛ وتضخم البنيات الإدارية داخل كل وزارة (المديريات المركزية والجهوية والأقسام والمصالح، والمؤسسات التابعة)؛ وخلق مؤسسات الموازية (مجالس وهيآت وصناديق ومكاتب، لا تخضع غالبا لرقابة الحكومة)؛ وتبني نظام زمني وثقافي مزدوج، (توقيت مخزني و إداري، أو ثقافة إدارية عصرية إلى جانب ثقافة مخزنية تقليدية).
ج- الحكامة والتدبير
القاعدة العامة هي ضعف التدبير. كما أوضحت ذلك عدة تقارير وطنية ودولية، والذي تجلى على عدد من المستويات، أهمها:
* المستوى السياسي، الذي تميز ببناء دولة عصرية، إلى حد ما، لكن في ظل حكم فردي وعدم استقرار حكومي (عرف المغرب نحو 26 حكومة بين 1956 و1998)، وعدم احترام الحق والقانون (حالة الاستثناء، سنوات الرصاص.)، وهذا مع غياب الرقابة على عمل الدولة/الحكومة كانت برلمانية أو شعبية، وعدم وجود تقييم للسياسات العمومية أو تقرير مبدأ المساءلة، وضعف التواصل الحكومي مع المواطنين، وما إليه من مظاهر الاستبداد والتسيب، الذي أدى إلى انفصال الدولة عن المجتمع.
* المستوى الاقتصادي، باستثناء بعض المكتسبات الإيجابية فإن هناك فشل في تدبير الموارد المادية والبشرية التي تتوفر عليها البلاد. النتيجة: وتيرة نمو بطيئة ( نسبة معدل التنمية لم تتجاوز 2،5 % كمعدل، وارتفاع الناتج الداخلي الخام ب. 1,7% سنويا خلال هذه الفترة) وضعف الرأسمال البشري. وهذا، مع قيمة مضافة ضعيفة وعجز واضح عن “التحكم في الكلفة وكتلة الأجور وترشيد النفقات العمومية وتوفير محيط قانوني ومؤسساتي ومالي يساعد على تنمية الاستثمار “..؛
* المستوى الاجتماعي، وهو الجانب الكارثي في سياسة الحكومات السابقة، الذي تحققت فيه بعض المكاسب دون شك في مجالات التجهيز والتعليم والصحة والنقل، وما إليه. لكن السلبيات كانت كثيرة، على رأسها عدم التحكم في النمو الديموغرافي (ارتفعت ساكنة المغرب 3 مرات منذ سنة 1961)، والعجز عن معالجة إشكالية السكن ومعالجة الفوارق الاجتماعية ومحاربة الأمية والبطالة والفقر، بما جعل المغرب يحتل درجة جد متخلفة عالميا على مستوى التنمية البشرية (الرتبة 123)؛
* المستوى التربوي والثقافي، الذي على الرغم من الميزانيات الضخمة التي خصصت له وكثرة مشاريع الإصلاح التي شملته منذ الاستقلال. فقد فشل في نشر المعرفة وتطوير البحث العلمي وتغيير العقليات وفرض الانتقال من ثقافة تقليدية سلبية تقوم على النقل والجمود والانتظارية..، إلى ثقافة حداثية إيجابية تقوم على الإبداع والتغيير والمبادرة. ويمكن أن نقول الشيء نفسه على المستوى التكنولوجي المتمثل في بطء تحديث المجتمع وإعداده للدخول في حضارة المعرفة والاتصال.
* المستوى القيمي والأخلاقي، الذي تميز من الناحية السياسية بتفشي مظاهر السلوك المشينة من تزوير الانتخابات وخلق الأحزاب وتطويع النخب وتشجيع مظاهر التسيب والفساد السياسي والأخلاقي والجمالي (..). ومن الناحية الاجتماعية بتحولات القيم الاجتماعية مثل انهيار القيم التقليدية وطغيان القيم المادية..، و”التوظيف السلبي للسلطة التقديرية واستغلال المنصب لأغراض سياسية وحزبية والاستغلال اللامشروع للممتلكات العمومية والمعاملة التفضيلية إزاء المرتفقين” ، وما إليه.
2- العهد الجديد
تميزت هذه الفترة (1998-2016)، عموما بثلاث محطات هي: تنصيب حكومة التناوب التوافقي سنة 1998 ، وتولي الملك محمد السادس الحكم على إثر وفاة والده سنة 1999، ودستور 2011 الذي أخذت فيه هذه التجربة منحى آخر.
هذا، ودون تفصيل. يمكن بعجالة، لا تخلو من اختزال، حصر أهم مؤشرات التغيير التي حدثت خلال هذه الحقبة في عدد من المؤشرات السياسية والتنظيمية والاقتصادية والاجتماعية والتدبيرية.
1)- المؤشرات السياسية
تتجسد عموما في الاستمرارية والمشهد السياسي.
* الاستمرارية، تمثلت في وجهين: إيجابي وسلبي: تجسد الوجه الأول في مواصلة بناء الدولة العصرية وتصفية ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والاعتراف بالأمازيغية، وتعزيز الترسانة القانونية (المصادقة على قانون محاربة التعذيب، وتعديل القانون الجنائي، وإصدار مدونة الأسرة، وقانون الجنسية..)، والتحسين النسبي للتمثيلية السياسية (..). أما الوجه الثاني فقد تمثل في استمرار مركزية الملك في الحقل السياسي، والتردد إزاء المنهجية الديمقراطية (تعيين وزير أول من التقنوكراط سنة 2002، قبل التراجع عن ذلك، شكليا على الأقل، سنوات 2007 و2012 و2016)، واختيار حكومة “ائتلافية” في كل هذه المحطات تجمع بين خليط من الأفراد ينتمون إلى مصالح واتجاهات سياسية وغير سياسية متنافرة (منتمون، مستقلون، إسلاميون، يساريون، يمينيون..)،
* المشهد السياسي، تميز من جانبه بانهيار تدريجي للأحزاب السياسية (لاسيما المنتمية للحركة الوطنية)، ومعها ذوبان الإيديولوجيات (يمين، وسط، يسار)، والاعتماد في تشكيل الحكومة والبرلمان على الأعيان، ومبادرة المخزن لفرض نموذج سياسي سلطوي الطابع (النموذج التونسي وقتها)، بل وخلق حزب أغلبي جديد (البام) ومنحه الأغلبية في الانتخابات الجماعية سنة 2009. لكن رياح حركة 20 فبراير التي هبت سنة 2011، سرعان ما أفشلت هذا المشروع، فاتحة المجال لتصدر حزب إسلاموي (العدالة والتنمية) للانتخابات التشريعية في السنة ذاتها. ورغم عودة المخزن مع تراجع (مد الحركة المذكورة) لمحالة إحياء مشروعه، فقد فشل في ذلك في انتخابات 2016، تاركا المجال مضطرا مرة أخرى لذات الحزب. بما بعثر الأوراق السياسية للقصر ومعه الصف الديموقراطي ككل.
2)- المؤشرات التنظيمية
على هذا المستوى، الذي هو امتداد لهذا التبعثر السياسي، يمكن القول إن الوضع سجل بعض المكتسبات دون شك، لكن من خلال هيكلة الحكومة وممارساتها يمكن ملاحظة ما يلي:
* أن هذه اللائحة بدأت ب 43 عضو حكومي (ما بين وزير ووزير منتدب وكاتب للدولة..) في حكومة ع.اليوسفي الأولى، كي تتقلص فيما بعد إلى 39 في حكومة ادريس جطو الأولى، ليتكرر ذات العدد 39 في حكومة بنكيران، وهذا بغض النظر عن القطاعات المنظمة في شكل وكالات ومكاتب ومؤسسات أو مندوبيات سامية ومجالس استشارية، والتي ينافس بعضها العمل الحكومي ذاته.
* أن تضخيم عدد الوزارات وتوابعها لم تتحكم فيه أية إستراتيجية حكومية ولا أي منطق عقلاني للتدبير كما هو متوقع من أية حكومة هادفة ومسؤولة، وإنما تحكم فيه كالعادة المنطق السياسوي الظرفي (“الريع السياسي” كما ذكر) الذي يهدف إلى تحقيق نوع من التوازن بين حسابات المخزن من جهة، وإرضاء أكبر عدد ممكن من الطلبات الحزبية وغير الحزبية من جهة أخرى.
* هذا ما عزز واقع التشرذم الوزاري والمؤسساتي، بكل ما يعنيه ذلك من خلط في الاختصاصات، وازدواجية في الهياكل، وتبذير للموارد المادية والبشرية، وتشتيت للجهود دونما طائل. ناهيك أن هذا التوجه يأتي على النقيض تماما من “سياسة القرب” التي أعلن عنها العهد الجديد. وذلك لأن هذه السياسة تفرض بداهة التخفيف من الأجهزة المركزية التقليدية لفائدة الأجهزة الجهوية والمحلية.
* النتيجة، استمرار الخلط بين المسؤوليات وعدم الانسجام والصراع المجاني حول الزعامات الوهمية والاختصاصات وضياع الوقت والموارد. ولعل هذا ما جعل الحكومة عبارة عن “أخطبوط” لا تستطيع التحكم في تضخم هياكلها وتشتتها، وبالتالي حكومة ضعيفة بالضرورة لا تقوى على تحديد سياستها وتوحيد مجال عملها، وفرض مسؤوليتها على المؤسسات التي توجد داخل أو خارج نطاق نفوذها.
* نعم، لقد حاولت الحكومة القيام بإصلاح إداري. بيد أن هذا الإصلاح لم يتجاوز اتخاذ بعض الإجراءات مثل: المغادرة الطوعية التي مست نحو 60 ألف موظف (التي اتضح فيما بعد أنها “كارثة” مالية وإدارية)، وفرض التوقيت المستمر ومراجعة مسألة تنقيط الموظفين (..). بيد أن هذه الإصلاحات لم تمس جوهر الكيان السياسي-الإداري، كما أوضحه الخطاب الملكي في أكتوبر 2016 أمام البرلمان.
3)- المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية
توقفت عندها عدد من التقارير الحكومية وغير الحكومية. ونكتفي من جهتنا ببعض الإشارات الخاطفة عن حصيلة الأوراش الكبرى التي تميزت بها وتقييمها العام.
أ- الحصيلة، تجلت عموما في سبعة أوراش كبرى، يمكن تلخيص أهم منجزاتها في: الاجتهاد النسبي في تعميم التمدرس ومحو الأمية، وتسريع وتيرة التجهيز (الأوراش الكبرى مثل: مشروع طنجة المتوسطي، ومشروع ضفتي أبي رقراق، والطرق السيارة ،..)؛ والرفع من وتيرة النمو الاقتصادي (الوصول إلى معدل 4% سنويا، ورفع الإنتاج الداخلي الخام بنحو 75%)، ودعم أنظمة الحماية الاجتماعية (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية)، ودعم التنمية المستدامة عبر بداية الاهتمام بالبيئة، ومراجعة نظامي التقاعد وصندوق المقاصة، وما إليه.
ب- التقييم العام، يفيد بما يلي:
* على المستوى السياسي: استمر المخزن في هيمنته السياسية. من خلال تحكمه في الأوراش والبرامج الوطنية الكبرى (كما تعكسه التدشينات) على حساب الحكومة، بما يفرض علينا إعادة طرح السؤال المذكور: لمن يجب إرجاع الحصيلة الحكومية والمسؤولية عنها، للملك أم للحكومة؟ أليس هذا ما دفع البعض، حتى من داخل الحكومة ذاتها (حكومة بنكيران)، للحديث عن “التحكم” المذكور.
* على المستوى الاقتصادي: إن ما تحقق من تطور اقتصادي، على أهميته، لم يمس الواقع اليومي للمواطنين إلا قليلا (باعتراف خطاب العرش سنة 2014 الذي جاء فيه ” أن الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين، إضافة إلى تقرير البحث الوطني حول الاستهلاك سنة 2016 الذي أشار أن هناك 5,8 مليون في فقر مطلق أو وضعية هشة)، كما أن هناك غيابا للشفافية بالنسبة لعدد من القطاعات مثل الأبناك والشركات الكبرى والاتصالات والصناديق الخاصة والاقتصاد المخزني.
* على مستوى الإعلام والثقافة: تحققت عدة مكتسبات دون شك، على رأسها تحرير المجال السمعي بصري وتوسيع دائرة التعددية الإعلامية والثقافية وحرية التعبير والتجهيز الثقافي (..). غير أن المشكلة في مدى وجود إرادة سياسية لتجاوز تعددية الأرقام الشكلية (كثرة القنوات والبرامج والتجهيزات) إلى تعددية حقيقية فعلية، ترتبط بإشكاليات التعليم والتربية والتكوين والاتصال.
* على مستوى الرقابة وحقوق الإنسان، يمكن تسجيل ذات التوجه. من جهة هناك تطور مسجل دون شك في هذا الصدد. لكن من جهة أخرى، مازالت الرقابة تشكو من الضعف (رقابة البرلمان، ورقابة الأجهزة المختصة، ورقابة المجتمع المدني..) . كما أن الأوساط الإعلامية وجمعيات حقوق الإنسان ما فتئت تسجل سنويا عددا من الخروقات أو السلبيات على هذا المستوى.
3- آفاق العمل الحكومي
عند استشرافنا لآفاق العمل الحكومي في بلادنا، لابد أن نستحضر بعض المبادئ التي نراها جوهرية، قبل أن نطرح ما نراه من موجهات ممكنة للإصلاح الحكومي على المدى المتوسط والقريب.
1) المبادئ الجوهرية
المبادئ أو المنطلقات التي نراها ذات أهمية في أي عمل حكومي هي:
* أنه في ظل تراجع المرجعيات أو الإيديولوجيات الكبرى المفسرة للتاريخ، صار من الصعب اللجوء إلى مرجعية أو إيديولوجية جاهزة (اشتراكية أو ليبرالية أو إسلامية..)، أي إلى نموذج مثالي للتنمية والتقدم، لتقرير أي تغيير أو إصلاح؛
* أن التغيير أو الإصلاح تبعا لهذا التصور لا يكمن في بناء تصور نظري مجرد (مثل: الإكثار من الدراسات والتقارير والبرامج والمزايدة في المطالب..)، بقدر ما يكمن في “الحل الملموس للواقع الملموس”، أي ما يجب أن يقوم به كل فرد أو جماعة من مجهود عملي يومي لبناء ذاته ومجتمعه؛
* من هذا المنطلق، لا أحد يمكن أن يدعي (إلا من في قلبه مرض أو وهم، أو ضحية لإيديولوجيا دوغمائية معينة، دهرية أو دينية) أن لديه الحل لكل شيء أو العلاج الشافي الوافي لكل أمراض الدولة والمجتمع، إن لم يكن العالم بأسره؛
* بيد أن هذا لا يجب أن يدفع بنا إلى السقوط في النسبية المطلقة أو العدمية والتسليم بالأمر الواقع، بقدر ما يجب أن يدفعن للتفاؤل والإيمان بإمكانية التغيير. وهذا عن طريق مراجعة الذات، والانطلاق من الواقع للاجتهاد في تقديم الأفكار والمقترحات العملية لتغييره في ضوء ما هو ممكن.
وهنا، وجب التنبيه إلى نوعين من الرهانات المستقبلية التي يواجهها المغرب في أفق 2030، وهي:
أولا- الرهانات المحلية، التي تكمن حسب “تقرير الخمسينية” في : توطيد الممارسة السياسية وتقوية التماسك الوطني وتحسين نظام الحكامة، وتوفير اندماج قوي للمغرب في مجتمع المعرفة، وإعادة بناء اقتصاد تنافسي يستفيد من الانفتاح الديمغرافي، وربح رهان جميع أشكال الإقصاء وإعادة تنظيم التضامنات والتخلي عن الفقر، واستغلال فرص الانفتاح ومواجهة تحدياته.
ثانيا- رهانات العولمة، والتي دخل فيها المغرب منذ بداية ثمانينات القرن الماضي وفرضت عليه، كما فرضت على العالم بأسره العديد من الضغوط والتحديات. وهي التي حصرها “جاك أطالي” على سبيل المثال في: دعم تكنولوجيا المستقبل، وبناء المجتمع العادل، وإصلاح فعالية السوق، وتشجيع الإبداع والاجتهاد، وتقوية وسائل التأثير والسيادة (بما يفيد تقوية دور الدولة محليا)، وإقامة “الديمقراطية الفائقة” والتشاركية، أي الحكامة الدولية .
2) الإصلاح المتوسط
بناء عليه، نرى أن الإصلاح يتجسد، على المدى المتوسط، في قضايا إستراتيجية ثقيلة أهمها ما يتعلق بمعالجة سألة صنع القرار وتأهيل الطبقة السياسية وتأطير المجتمع.
* صنع القرار، تم التقدم فيه نسبيا مع دستور سنة 2011، على اعتبار ما حصلت عليه الحكومة من اختصاصات موسعة أكثر. لكن التجربة الحكومية 2012-2016 أكدت أن هناك إشكالية لصنع القرار بين القصر والحكومة. السؤال، كيف تحل؟ هل يجب الذهاب إلى إصلاح دستوري يقر بمبدأ “الملكية البرلمانية”؟ وهل هذا ضروري أو مرغوب فيه أصلا، في ظل المد الإسلاموي والجزر الديموقراطي؟ لاأدري، لكن المسألة ستفرض ذاتها بالتأكيد على المدى المتوسط.
* تأهيل الطبقة السياسية: مرتبط بهذه المسألة، إذ تشير أرقام الانتخابات التشريعية لسنة 2016 بأن العزوف السياسي بلغ نحو 77% تقريبا (إذا احتسبنا غير المسجلين وغير المصوتين والأصوات الملغاة)، وأن الأحزاب السياسية، بما فيها الإسلاموية المشاركة، لم تحصل إلا على 23% من الأصوات المعبر عنها. وهو ما يفرض آليات جديدة للتمثيلية السياسية، لا تعتمد على الأعيان، بقدر ما تعتمد على الواقع، في ظل ما يشهده المجتمع، ومعه العالم بأسره، من تحولات على أكثر من صعيد.
* إعادة النظر في هيكلة الدولة، بالنظر أن هذه التحولات، المحلية والعالمية، أصبحت تفرض إعادة النظر في تنظيم الدولة ووظائفها بقوة. وهو ما يتطلب الحسم في العديد من المسائل الأساسية مثل: تحديد السياسة العامة (تمكين الحكومة من تحديد سياستها بوضوح) وإعادة هيكلة الدولة (خفض عدد الوزارات والمؤسسات والهيآت والمجالس، وحل إشكالية التمفصل الهيكلي والزمني للدولة) وتطبيق الجهوية المتقدمة، وما إليه.
* تأهيل المجتمع، لا بمعنى التوجيه والإرشاد والتحكم الفكري والأخلاقي، ولكن بمعنى العناية “بالرأسمال البشري “، الذي يفيد مسألتين: أولا- التأطير الرمزي الذي يفيد تطوير التربية والثقافة والعلوم، وتشجيع روح الواجب والمسؤولية والتضامن لدى المواطنين، انطلاقا من أن الثقافة هي التي تصنع الحضارة؛ وثانيا- التأطير المادي، الذي يفرض إعداد البنية التحتية اللازمة وتوفير الشروط المادية للنهوض بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمواطنين، والتي من شأنها تعزيز المفهوم الثقافي أو الأخلاقي المذكور،
3) الإصلاح القريب
هو ما يمكن تحقيقه على المستوى القريب عن طريق اختيار حكومة مسؤولة، وتعزيز البناء الاقتصادي والاجتماعي وتحسين التنظيم والتدبير ودعم الاتصال والرقابة والتقييم.
* حكومة مسؤولة، تتألف من أغلبية برلمانية يتم تعيينها على أساس النتائج التي تفرزها الانتخابات التشريعية (وهو ما تم احترامه نسبيا خلال انتخابات 2011 و2016). وهذا، مع التقليل من عدد الوزارات (التي يجب ألا تتجاوز 25 حقبة على أكثر تقدير)، مع ضبط مسطرة تعيين أعضاء الحكومة من حيث اشتراط الكفاءة والمروءة لتولي أي منصب وزاري (وهو ما تتحمل فيه الأحزاب نصيبا كبيرا)، ومن حيث تمثيل الحساسيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأساسية في المجتمع،
* مواصلة البناء الاقتصادي والاجتماعي: بما يفيد تعميق الجهود التي تم الشروع فيها منذ سنة 1998 من أجل بناء اقتصاد فاعل، وفق الإصلاحات التي حددتها الدراسات التي عنيت بالموضوع (الخمسينية والمندوبية السامية للتخطيط و”انبثاق”..) والتي ركزت في مجموعها على إنعاش الشغل عبر الاهتمام بقطاعات التجهيز والصناعة والسياحة والثقافة والإعلام والاتصال والبحث العلمي، وما إليه. وهذا إلى جانب الأوراش المرتبطة بالجانب الاجتماعي ( التعليم والصحة ومحاربة الهشاشة..)
* التنظيم والتدبير، ويتضمن، إعادة النظر في عدد من المؤسسات الموازية أو المرافق الإدارية بالضم أو الإدماج أو الإلغاء، وجعل الحكومة تتحكم في كل المرافق أو الهيآت أو المؤسسات العمومية التي تعمل خارجها (صندوق الحسن الثاني للتنمية، ومؤسسة الولاة والعمال، والمراكز الجهوية للاستثمار، ووكالات التنمية،..) ، والعمل ببرنامج حكومي واحد (وليس ببرنامجين: الأول للملك والآخر للحكومة)، حتى يتضح مجال عمل الحكومة وتتحدد بالتالي مسؤوليتها وإمكانية محاسبتها بوضوح.
* الرقابة والتقييم ، تفرض نهج سياسة ناجعة لتقييم السياسات الحكومية باستمرار سواء عن طريق آليات الرقابة (السياسية، والبرلمانية، والإعلامية)، أو عن طريق أجهزة التفتيش الخاصة (المفتشيات الوزارية، المجلس الأعلى للحسابات..) التي تفرض احترام القانون ومحاربة الانحرافات من كل نوع، أو من خلال التقارير الدورية للجهات المعنية في كل المجالات، والتي يجب أن توضع رهن إشارة الصحافة والمواطنين.
* الاتصال، الذي ، فضلا على أنه شكل من أشكال الرقابة على العمل الحكومي، فهو يمثل أداة هامة للتواصل بين الدولة والمجتمع، بما يفرض انفتاح كل مكونات الحكومة على المواطنين ووسائل الإعلام والبرلمان والرأي العام، عن طريق تقديم المعلومات، ونشرها وشرح السياسة المتبعة، والإجابة عن الأسئلة المطروحة..) مع تحري الصدق والموضوعية. وهذا، فضلا عن فتح مصادر الخبر الحكومية أمام الصحافة، في إطار حق الرأي العام في الإعلام،
خلاصة
حاولنا في هذا المقال الوقوف
على بعض الخطوط العامة للعمل الحكومي خلال الخمسين سنة الأخيرة. وقد تبين لنا من خلال التحليل السريع أن هذا العمل حقق دون شك مكاسب عديدة توقفت عندها عدة تقارير وطنية ودولية. بيد أن هذا العمل تميز كذلك بعدة سلبيات حالت دون أداء لوظائفه على الوجه المطلوب. وهي معوقات سياسية-دستورية وبنوية-هيكلية وتنظيمية –تدبيرية. وأن التحدي المطروح نتيجة ذلك هو القيام بعدد من الإصلاحات الممكنة على المدى المتوسط والقريب. على رأسها حسم مسألة الديموقراطية، وإصلاح هيكلة الدولة، والاستمرار في التطور الاقتصادي والاجتماعي.
يبقى التساؤل، هل هذا الإصلاح السياسي بشقيه، المتوسط والقريب، مازال ممكنا، أم أن الجسد السياسي والاجتماعي تفسخ وانتهى زمن السياسة والأحزاب لصالح التسلط والشعوذة وزحف الفكر الظلامي؟ لا أدري، لكن المستقبل في كف عفريت.
محمد بهضوض
سلا في 26 أكتوبر 2016