محمد بوبكري
تواجه بلادنا تحدِّيات ومخاطر داخلية وخارجية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فإضافة إلى تحدِّيات التنمية والتحديث والتحوُّل الديمقراطي والعقلنة، هناك مخاطر خارجية تتمثل في ما تتعرض له منطقتنا من تهميش متزايد في ظل العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية الحالية التي فرضتها العولمة بهدف تحقيق المصالح الإستراتيجية للقوى العظمى. وإذا كانت طبيعة هذه التحدّيات تقتضي تعبئة مجتمعية شاملة، ومشاركة فعلية للمغاربة في صياغة سياسات المواجهة وتحديد أهدافها وأولوياتها وأساليبها، فإن الحاكمين عندنا ينفردون باختيار التوجهات الكبرى لسياسة البلاد، ولا يسمحون لباقي مكونات المجتمع بلعب أيّ دور فيها رغم أن هذا الأخير يتحمل أعباء تلك الاختيارات وما ينجم عنها من تقشف ومعاناة اقتصادية وبطالة وفقر وتهميش وممارسة للتضليل الفكري والإعلامي… لقد أكدت التجربة التاريخية فشل الحاكمين في الاضطلاع برفع هذه التحدِّيات بمفردهم، حيث لا تحدث التحولات الديمقراطية والتنمية الفعلية والنجاح في مواجهة المخاطر التي تهدد الوطن بدون مشاركة فعلية للمجتمع. ويُرجِع الباحثون فشل بلدنا في إنجاز ذلك إلى إيثار المسؤولين لمصالحهم الخاصة على المصالح العامة للمجتمع في مواجهة هذه التحديات، واستبعادهم مختلف القوى المجتمعية خوفا من أن تتجاوزها هذه الأخيرة في لحظات معينة من هذه المواجهة.
فبالرغم من تضحيات مجتمعنا الكبيرة ومعاناته الشديدة، ما تزال لحد الآن آماله في التحديث والبناء الديمقراطي والتنمية تتحطم باستمرار على صخرة الاستبداد والقَبَلِية والطائفية وكل النزعات التقليدية.
يلاحظ البعض أن بلادنا عرفت تطورات نحو “التعددية الحزبية والحياة البرلمانية”، لكن أغلب الباحثين والمتتبعين يرونَ أن هذه التطورات لا تندرج ضمن الأنظمة الديمقراطية الفعلية، وإنما هي “تعدٌّدية سياسية مٌقَيَّدَة” يقبل فيها الحاكمون بوجود تعدُّدية سياسية شكلية في ظل قيود وضوابط تحول دون إمكانية وجود أحزاب سياسية فعلية وتداول حقيقي للسلطة.
تتحدث الأدبيات السياسية عن أن أنظمة “التعدُّدية السياسية المٌقَيَّدَة” لا تٌمَكِّن المجتمعات من التخلٌّص من الاستبداد، بل تساعده على الاستمرار جوهريا في صيغة جديدة وبأساليب جديدة. وقد تولَّدت الحاجة إلى تلك التعددية بدافع الرغبة في تجنب تآكل شرعية الحاكمين وتخفيف الصراع الاجتماعي والسياسي الناجم عن تعمّق الأزمة التي أفرزتها سياساتهم. لذلك لا يمكن اعتبار “التعدُّدية المقيَّدة” ديمقراطية لأنها لا تعير اهتماما للإرادة العامة ولا تحقق سيادة القانون، إذ تعمل على استمرار الأمر الواقع وتكريسه عبر إجراءات جديدة تحول دون إحداث تحول ديمقراطي. وتتسم خصائص “التعدُّدية المقيَّدة” بكونها تتم بشكل تدريجي بقرار من الحاكمين ووفق إرادتهم وليس عبر النضال الفكري والسياسي والاجتماعي. كما أنها لا تضمن كافة الحقوق والحريات السياسية، بل إنها، على العكس، قد ترفض بعض الحقوق والحريات وتجهز على بعض مما تحقق من مكاسب ديمقراطية… إضافة إلى ذلك، تطبع هذا النوع من التعدُّدية هيمنة السلطة على المجتمع والعملية السياسية معا…
يعتقد بعض الناس أن الديمقراطية تتحقق بمجرد الترخيص بتأسيس أحزاب عديدة، وإجراء انتخابات دورية لتشكيل مجالس منتخبة وبرلمان، وإصدار صحف ونشرات حزبية. وهذا ما كَوَّن لديهم تصورا خاطئا جعلهم يعتقدون أنه يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي في وقت وجيز، ففقدوا الرؤية السليمة التي يمكن أن تساعد على بلوغ هذا الهدف عبر تحقيق ما يقتضيه من شروط وإجراءات… وكان ذلك ضمن الأسباب التي أدَّت إلى العجز عن توفير الشروط الضرورية للمشاركة الشعبية وتمكين المجتمع من اختيار حكامه والمشاركة في تطوير السياسات العمومية وفرض رقابته على السلطة التنفيذية ومحاسبتها على أساس ما تحققه من نتائج…
يبدو لي، في ظل الظروف الحالية، أن الانتقال الديمقراطي في بلادنا يقتضي أساسا تحرير الإنسان لأن إطلاق سراح طاقاته يجعله قوة أساسية في مواجهة التحدِّيات والمخاطر التي تهدد بلادنا، ولكن ذلك لا يمكن أن يحدث في ظل استمرار رواسب الاستبداد في مجتمعنا مُتجسِّدة في ثقافة لا ديمقراطية ونزعات تقليدية ترمي إلى الاستبداد والهيمنة والنكوص وتحويل الوطن إلى ساحة للصراعات والحروب الطائفية… وما لم يحدث تحوُّلٌ ديمقراطي في كافة مناحي حياة المجتمع، فلا مجال للحديث عن تحرير الإنسان المغربي، حيث إن الديمقراطية هي جوهريا نمط حياة وأسلوب لإدارة المجتمع وتدبير اختلافاته وصراعاته سلميا. لذلك فهي تقتضي سيادة قِيَّم الديمقراطية ومؤسسات وآليات لتطبيقها بمفهومها السليم.
لقد توفر الحدُّ الأدنى من الشروط الضرورية لقيام الديمقراطية في العديد من المجتمعات الغربية وغيرها من المجتمعات الديمقراطية الأخرى، حيث اعتمدت مفهوما إجرائيا للديمقراطية يأخذ شكل صيغة لتدبير الاختلاف والصراع في المجتمع الطبقي بوسائل سلمية، بناء على قواعد وأسس متوافق عليها سلفا من قِبَلِ جميع مكونات المجتمع، تضمن تداول السلطة بين الجميع عبر انتخابات دورية حرة ونزيهة. فالمجتمع ليس مجرد حاصل مجموع أفراده، وإنما هو فئات وطبقات اجتماعية يخلق وجودها علاقات ومنافسات وصراعات. وهذا ما يتطلب التمكن من تنظيم هذه العلاقات والصراعات بوسائل سلمية، إذ بدون ذلك يسقط المجتمع في براثن العنف والحروب الأهلية. ونظرا لكون الديمقراطية إطارا لتنظيم الصراع الاجتماعي بشكل سلمي، فهي مسألة نسبية وعملية تاريخية متدرجة، تبدأ عندما يتمكن المجتمع من السيطرة على مصادر العنف وتدبير الاختلاف سلميا تعبيرا عن إرادة مختلف قوى المجتمع التي تروم ضمان حدّ أدنى من المشاركة السياسية الفعلية والفعالة لجميع المواطنين بدون تمييز ولا استثناء. وقد تعرف هذه العملية التاريخية نضجا وتطورا قد يستغرق وقتا لاستقرار الممارسة الديمقراطية وحدوث التحوُّل الديمقراطي بهذا المفهوم.
لذلك فقد تتمكن الديمقراطية من تنظيم الصِّراع الاجتماعي بشكل سلمي كلما وفرت للمجتمع نظاما للعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية يُرَتِّبُ العلاقات بين أفراده وطبقاته من جهة، وبين الدولة والمجتمع من جهة أخرى، وبين كل من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية من جهة ثالثة. ومن المعلوم أن التدبير الجيد لمختلف هذه العلاقات يفضي إلى التداول السلمي للسلطة بين سائر الفئات والطبقات الاجتماعية عبر الانتخابات العامة الدورية.