محمد بوبكري
يلاحظ المتتبعون اليوم عزوفا تاما للأغلبية الساحقة من المثقفين وأفراد الفئات الوسطى في المغرب عن العمل الحزبي والعملية السياسية في آن واحد، ما يستوجب طرح الكثير من الأسئلة حول هذه الظاهرة الخطيرة في هذه المرحلة “الحرجة” التي يجتازها بلدنا، والتي ينبغي العمل على تجاوزها. لقد كانت هذه الشرائح الاجتماعية تنخرط دائما، في العمل السياسي والاجتماعي، بشكل أو بآخر، بل وقد كانت تؤطره. فما هي الظروف التي أدَّت إلى رفضها للأحزاب ورحيلها عنها؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
يعود السبب الجوهري في ذلك إلى أن الأحزاب قد فشلت في بناء أي مشروع أو برنامج أو أفكار لتطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد، فأصبحت غير قادرة على تبنِّي أية قضية، أو اتخاذ أي موقف جدِّي من مختلف قضايا المجتمع والوطن، وتخلَّت عن مناهضة الفساد والفقر، واستسلمت لبعض الجهات الداخلية والخارجية التي تعمل على تدمير المثقفين والفئات الوسطى، فانكشف عجز هذه الأحزاب عن خلق أي حركية سياسية واجتماعية، فصارت بدون قواعد ولا امتدادات مجتمعية…
وبمتابعة معظم خطابات الأحزاب نجد أنها متشابهة، بحيثُ لا تتميز عن بعضها البعض بأي شيء، كما ليس بينها من يعبِّر عن تيارات سياسية أو قوى اجتماعية واضحة. والأخطر من ذلك هو غياب الديمقراطية داخلها، حيث لا تقبل زعاماتها حرية أعضائها، بل تسعى إلى ترسيخ تبعيتهم لها، وهو ما يكشف عدم تخلّصها من فكر القبيلة والطائفة، ويتنافى مع حرية الفكر والتعبير، ويدفع النخب إلى النفور منها ومقاطعتها.
لذلك، لا تعبِّر المشاركة في الحياة الحزبية في بلادنا عن موقف سياسي أو اجتماعي، فالمشهد الحالي منَفِّر للمثقفين والأطر، والمشهد الإعلامي يُحَاوِل السيطرة على العمل السياسي، ما يستوجب فصل المال عن الفعل السياسي، وكذلك الحيلولة دون إفساد المال المشبوه للعملية السياسية ولمؤسسات المجتمع والدولة…
وينسحب هذا الفشل الذريع على ما يسمى بـأحزاب “الأغلبية” و”المعارضةً” على السواء، إذ لا تعبِّر من حيث تفكيرها وممارستها وتنظيمها عن كونها أحزابا، لأنها تتعارض ومفهوم الحزب بالمعنى المتواضع عليه اليوم في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والمُمَارس في كل البلدان المتحضرة، بل وحتى الصاعدة. وهذا ما دفع المواطنين الذين يحترمون أنفسهم وعقولهم وتاريخهم وقدراتهم إلى العزوف عن الانتماء إليها، فراحوا ينظرون إليها باعتبارها أحزابا ورقية لا فكر لها ولا إنجاز، ولا امتدادات مجتمعية، ولا قيادات حقيقية، ولا حتى حياة… كما أن من يرأسونها يقومون فقط بالحفاظ على الأوضاع القائمة وترسيخ الفساد، لأنهم يعتقدون أن مصالحهم الخاصة تقتضي ذلك.
نتيجة ذلك، يكاد يُجمع المتتبعون أن الأحزاب عندنا ميِّتَة إكلينيكيا، ويُرجعون ذلك إلى أن زعاماتها كلها تنهل من نبع واحد، كما أن من كان منها كبيرا نسبيا لم يعد يقدم شيئا، فأصبح هيكلا شكليا تابعا لأطراف من خارجه، وصار يكتفي فقط بممارسة نوع من “الفرجة” الفارغة شكلا ومضمونًا، حيث لا جمالية ولا روح فيها. وهذا ما يفسر اندثار الأحزاب عندنا.
فضلا عن ذلك، تظل البنية الحزبية في أعماقها ذات نزعة تقليدية، حيث لازال يطغى عليها فكر العائلة والقبيلة والطائفة، كما أنها في بعض الأحيان عبارة عن فروع لشركات، فغابت عنها المأسسة، وانعدمت فيها الحركية، فتحولت إلى فضاء موبوء لا تستطيع الفئات الوسطى استنشاق الهواء بداخله، فأحرى المشاركة في تدبير انحطاطه، إلا فئة قليلة جدا رضيت لنفسها أن تضع ذاتها رهن إشارة “زعامة” الحزب التي تتوهم أنها مالكته مع أن ما تترأسه أصبح مجرد اسم بدون مٌسمّى، حيث حدث تراجع فكري وأخلاقي وسياسي خطير لدى هذه الزعامات الحزبية، فبات همُّها الوحيد هو الاستفادة من الريع. وهذا ما جعل الحالة الحزبية عندنا تتقلب كل يوم، حيث تٌغَيِّر الزعامات الحزبية مواقفها كل يوم تبعا لمصالحها الخاصة وما يٌملى عليها من خارجها، ما جعلها تقدم للمجتمع، بل وحتى للخارج، نماذج رديئة. هكذا، صارت الأحزاب لا تملك فكرا ولا قِيَّما يجمعان بين أعضاء الحزب الوَاحِد. وهذا ما يفسر أن ما تعرفه الأحزاب من انشقاقات وازعه السلطة والمصلحة الشخصية، وليس المشروع المجتمعي…
علاوة على ذلك، يعود عزوف المثقفين والأطر عن المشاركة في الحياة الحزبية أيضا إلى ميراث فساد سياسي ثقيل دام سنوات جراء تحجيم الأحزاب عبر احتلالها وشلِّها من الداخل، ما تسبب في ضعفها التنظيمي. وقد أدت هذه الوضعية البئيسة إلى لجوء الزعامات السياسية إلى استقطاب “الأعيان” لترشيحهم باسمها في الانتخابات، لأن هؤلاء يضمنون “الفوز” في “الاستحقاقات الانتخابية” باستعمال الأموال الفاسدة في شراء أصوات الفقراء لدخول”المؤسسات المنتخبة”، وبذلك فهم يتعارضون من حيث طبيعتهم مع الديمقراطية ومبادئها وقيَّمها ومؤسساتها وإجراءاتها، لأنهم ينتمون إلى زمن ومجتمعات ما قبل الحزب والانتخابات الديمقراطية والدولة الحديثة. أضف إلى ذلك أن التصويت عندنا في جزء منه هو تصويت لصالح الطائفة أو القبيلة، وليس لفائدة برنامج أو مشروع أو حتى لمجرد قناعة، الأمر الذي يضع الأحزاب خارج الصورة.
تبعا لذلك، لا توجد حياة حزبية حقيقية في بلادنا، لأن الحياة الحزبية تقتضي نضجا حضاريا لمؤسسات المجتمع والدولة، كما أنها تنشأ في مجال عام مفتوح، وقواعد تضمن كل الحقوق الديمقراطية المتعارف عليها كونيا. ويُعد غياب الحياة الحزبية مؤشرا خطيرا يدل على غياب التعددية الحزبية، وتداول السلطة والديمقراطية…