الماء والاقتصاد في تاريخ سوس: الدولة السعدية وصناعة السكر خلال القرن 16م/ 10هـ الحسن إدوعزيز*

الماء والاقتصاد في تاريخ سوس: الدولة السعدية وصناعة السكر خلال القرن 16م/ 10هـ الحسن إدوعزيز*

- ‎فيرأي
1033
0

 

الجزء التاسع:
والملاحظ أن المنشآت المائية السعدية التي أتينا على ذكرها بسوس، كانت في الغالب بسيطة من حيث الزخارف، وقوية من حيث القوة والمتانة..بالنظر إلى الأهداف والغايات التي وُجدت من أجلها، وبالنظر إلى طبيعة المكونات التي استُخدمت في بنائها. فجل المركبات المائية-الصناعية التي تطرقنا إليها، كانت تعد من أنواع البنايات المرتكزة على هندسة المشاريع العملاقة، التي تنبني عليها أسس الدولة. حيث كان يصل سمك جدرانها إلى حوالي النتر والنصف تقريبا، وبارتفاع يفوق الأربعة أمتار. وبُنيت بالاعتماد على مواد محلية كالطين والحصى والجير وجذوع الأشجار…وباستعمال تقنية “الطابية” (تابيا باللغة المحلية) أو”تلواحت” التي لا تزال تستعمل لبناء هذا النوع من العمارة. إذ غالبا ما كان يستعمل “الجير” و”الحصى”( التوفنة ) بمقدار النصف لكل عنصر؛ ثم يخمر الخليط جيدا قبل وضعه في إحدى الألواح الخشبية (اللوح) على شكل “عجين”، ويتم ضربه بـ”الدصاصة (أو “لمركز” باللغة المحلية) جيدا حتى تتشكل فقاعاته، ثم تضاف طبقة أخرى من العجين، وتضرب بنفس الطريقة وهكذا حتى تكتمل الجدران وتتصلب. حيث كان “الجير” يعد العنصر الأساس في تقنية البناء خلال تلك الفترة، ولعل ما يُفسر ذلك هو بقاء بعض الجدران شاهدة تصارع الزمن، كما رأينا، ببعض المواقع رغم ما تعرضت له من تخريب وتهديم بعدما دب الضعف إلى أركان دولة السعديين.
وعموما، فإذا كان “للمخزن السعدي” دور أساسي في تدبير الشبكة المائية بسوس لأغراض صناعية، بتشييد السواقي الضخمة والعملاقة، ومدها لمسافات بعيدة بتوجيهها لسقي مزارع قصب السكر، ولغرض تحريك “أرحاء” “المعاصر”، عبر رفعها بواسطة القناطر والجدران العملاقة بتقنيات هندسية بديعة. فإن هذا التدبير لم يكن، بدون شك، سوى على أكتاف الفلاحين البسطاء من السكان المحليين، والأسرى المسيحيين، والعبيد الأفارقة الذين تم استقدامهم بعد حملة المنصور على السودان الغربي.
فلعل المشاريع السعدية، كما يؤكد ” أنطونيو دي صالدانيا” من خلال الوقائع التي عايشها إبان عصر المنصور السعدي، لم تكن لتحظى بقبول المجتمع المحيط بها وبرضى القبائل المحلية لاعتبارات معقدة كانت تتراوح بين ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي. فرغم ما تورده المصادر التراثية التقليدية (مناهل الصفا ومصادر اخرى) بكون “المنصور” السعدي قد وفر الآليات والخبرات اللازمة لتطوير الإنتاج السكري بسوس، وللرفع من الإنتاج الصناعي من هذه المادة الحيوية لدعم مواقع المغرب على صعيد التجارة والدبلوماسية العالميتين أنذاك. فإن سياسته التي كانت معتمدة في تنظيم تلك المشاريع الفلاحية،لم تكن لتراعي انتظارات ساكنة المجال وتطلعاتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية حسب جل الباحثين المحدثين. ولعل هذا ما دفعها إلى الثورات الميدانية، التي كانت عنيفة في بعض الأحيان، ضد هذه السياسة، وإلى بلورة صور سلبية عن تلك المشاريع السكرية، والتي صيغت حولها أساطير وحكايات خيالية أثرت على الضمير الجمعي للقبائل المحيطة إلى حدود اليوم..
وحسب صاحب “أخبار أحمد المنصور” (دي صالدانيا) دائما، فإن استحواذ النصارى على الأراضي التي خصصت لغرس قصب السكر بعقود مباشرة من السلطة السعدية، كان قد دفع السكان المحليين وسكان عالية حوض سوس بالجبال المجاورة إلى المعاناة من الفقر المدقع، فانقطعت عنهم أسباب العيش.. مما دفع “الناس إلى التكتل والهجوم على معاصر السكر وتدميرها، وإلى نهب التجار اليهود ممن قطع لهم حق التصرف بها وتسييرها واستغلالها.. بل وقتل بعض ممن تصدى للدفاع عن تلك المعاصر من الجنود والمدنيين من المسلمين”.
ولقد دفعت الرغبة الملحة في التحكم في تجارة السكر السوسي، كأولوية من الأولويات الإستراتيجية، بالسلطان “أحمد المنصور الذهبي” وطيلة مدة حكمه إلى توجيه قواته وعتاده الحربي لاحتواء الثوار وتشتيت صفوفهم والتمثيل بقادتهم المحليين رغم حصونهم المنيعة بالجبال. إلا أن هذا الحصار سرعان ما سينفك بوفاته (سنة 1603)، ذلك أن مغارس ومعاصر السكر، سرعان ما سينتهي عهد ازدهارها بانتهاء العصر المنصوري. كما أن البنيات التنظيمية القبلية والتقليدية بسوس لم تكن لتحرص على حماية هذا القطاع، بل شاركت في تفكيكه، وفي تدمير جل المنشآت المائية الكبرى التي شيدت على وادي سوس. ولعل ذلك راجع، حسب الأستاذ “عبد المجيد قدوري”، إلى الوباء الذي هز المنطقة بداية القرن السابع عشر، وإلى سنوات القحط المتوالية التي زادت من حدتها السياسة الاقتصادية العامة للدولة التي ركزت على الاهتمام بالزراعة التحويلية لقصب السكر مقابل اهمال “الزراعات المعاشية” للسكان. والذين أمعنت أيادي السلطة المركزية في الإساءة إليهم بعمليات “الكلف” و”الحركات” من جهة، وعن طريق استنزاف المياه ومصادرها، والاستغلال المفرط لليد العاملة المحلية في مزارع الدولة من جهة ثانية. حيث “نزل الأرض بذلك ما نزلها، ونالها من الفساد والفتن ما نالها، وطاش بها الوقور، ونيش الحقور، ووضع النفيس، وارتفع الخسيس، وفشا العار، وخان الجار، ولبس الزمان البؤس، وجاء بالوجه العبوس، وأورد ماء الاختلاف، وأنضب ماء الوجوه والائتلاف، وطأطأ الحق رأسه، وأخفى المحق نفسه، وتبرقعت الحسناء، وكشفت الشوهاء، واعتمل الخبيث، واحتمل على الخبائث بالسير الحثيث، ووردت المهالك، وسدت المسالك، وعم الجوع، وتبرأ الكوع من البوع…”، كما يُستفاد من وصف “أبي زيد التمنارتي” إبان عصر التطاحنات السياسية لأبناء المنصور وأدعياء الحكم حول السلطة. إذ تلخص هذه الصورة القاتمة الموثقة مغرب القرن السابع عشر، بعد انهيار سلطان دولة كان لها السبق في استغلال الموارد المائية لنهر سوس، بمؤهلاته الطبيعية والفلاحية التي طالما عددها مؤرخو العصر الوسيط، من أجل تدشين إحدى القطاعات الصناعية الغذائية الهامة التي وصلت بالدولة المغربية إلى العالمية، وجعلتها تحتل مركزا هاما ومحترما بين أمم تلك الفترة.
وإذا كنا ندرك بأن هذا الإجهاض الذي عرفته مشاريع السعديين لم يكن سوى نتيجة السياسات العامة المفروضة من طرف الدولة المركزية، والتي تضرب في الغالب الانتاج المعيشي المؤطر بالتنظيمات الاجتماعية القبلية المحلية التي غفل التاريخ السياسي عموما عن التطرق إليها. فإننا نكتشف، من زاوية أخرى، بان التنقيب في تاريخ ذلك المجتمع القبلي لسوس بتنظيماته وآلياته وأساليب تدبيره وتسييره، خصوصا بالمناطق الجبلية، يُثبت عكس ذلك. حيث نلمس حصول تراكم تاريخي وتراثي على مستوى وسائل الإنتاج وأساليب الاستغلال فيما يتعلق بالمنشآت والتقنيات المائية وأساليب تدبيرها وتوزيعها واستعمالها. فرغم أفول الأسر والسلالات الحاكمة التي تعاقبت على حكم المغرب، بقي اقليم سوس، بسهوله وجباله، خزانا للفلاحين من الكادحين الذين توارثوا عبر التاريخ ثقافة مائية وفلاحية غنية.
ولعل المثير في هذه الثقافة المائية والفلاحية التقليدية لأرياف سوس عموما، هو أنها لا تزال مستمرة تقاوم وطأة الزمن والنسيان، ولا تزال تتعايش كـ”تراث مائي” حضاري، مع المنشآت العصرية المستحدثة للري كالسدود العملاقة، وتقنيات السقي العصرية بالقنوات الإسمنتية، والأذرع المحورية، والسقي الموضعي والمضخات…مما يؤكد على أن مجال “سوس” مجال تراكم تاريخي بامتياز؛ وان هذا التراكم هو الذي لا يزال يساهم، بقسط وافر، في الازدهار الفلاحي الذي ما تزال الدولة المغربية العصرية تعيش على ايقاعه.
فإلى حدود اليوم، ورغم التدهور المناخي الذي أرخى بثقله على مجموع البلاد، وعلى منطقة “سوس” تحديدا، فإن هذا الإقليم لا يزال يشكل رقما حاسما في المعادلات الاقتصادية والمالية للدولة المغربية…ولا تزال موارده المائية محور أغلب المخططات الفلاحية الوطنية، ولا تزال سهوله هدفا لتوسيع الزراعات والمغروسات الفلاحية التي تستجيب لمواصفات الجودة العالمية.
إنه مشهد يذكرنا بنفس الصورة التي تناقلتها المصادر التاريخية والجغرافية الوسيطية عن سوس منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، كما يذكرنا بالاهتمام البالغ الذي أولاه السعديون لتلك الربوع…مما يعكس أهمية التراكم التاريخي التقني والمادي في فهم الحاضر، ودور استمرار هذا التراكم (خلال الزمن الراهن) في فهم معطيات الماضي ومؤهلاته…ويجعلنا، في الوقت نفسه، نطرح أسئلة جوهرية حول المستقبل في ظل الإنجرار بدون وعي وراء تقنيات وأساليب تدبيرية دخيلة، ربما سيكون لها كبير الأثر على بيئتنا ومواردنا…المائية منها على الخصوص.
انتهى
*طالب باحث في التاريخ

نالبيقفللف

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك ايضا ان تقرأ

RADEEMA تعلن عن إغلاق الملحقات التجارية بمراكش يومي الجمعة والسبت