الباحث: محمد أقسقوس
تعد مدينة مراكش من بين أطول المدن المغربية عمرا، وأعرقها حضارة وأكثرها إنتاجا للعلم والعلماء، وقد لعبت منذ تأسيسها على يد الأمير المرابطي أبي بكر بن عمر اللمتوني أدوارا بارزة في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، كما كانت بحكم موقعها على عهدي المرابطين والموحدين مصدر إشعاع كبير، ومركزا ثقافيا مهما نتج عنه تراث حضاري زاخر صمد لعصور طويلة وتوارثته أجيال مختلفة.
وإذا كان التراث بمفهومه البسيط هو ما خلفته الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة، أو بالأحرى علاقة تبادلية بين الإنسان ومحيطه، فإن مدينة مراكش حقا ورثت تراثا زاخرا أضحت بفضله الوجهة السياحية الأولى في المغرب، بل الأكثر من ذلك أول وجهة سياحية على صعيد القارة الإفريقية. إنها مكانة احتلتها منذ عقود وأصبحت حقيقة لم تعد تخفى على أحد، وقد وصفت مراكش بأنها المدينة الحمراء، الفسيحة الأرجاء، الجامعة بين حر وظل وظليل وثلج ونخيل عاصمة دولة المرابطين والموحدين والسعديين، وقد قال فيها ابن خلكان صاحب كتاب “وفيات الأعيان وأنباء أبناء هذا الزمان”: “مراكش مدينة عظيمة بناها الإمام يوسف وهي قاعدة بلاد المغرب وقطرها ومركزها وقطبها، فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، بسيطة الساحة ومستطيلة المساحة، كثيرة المساجد، عظيمة المشاهد، جمعت بين عذوبة الماء واعتدال الهواء، وطيب التربة وحسن الثمرة، وسعة الحرث وعظيم البركة…”.
ومعلوم أن التراث التاريخي يلعب دورا فعالا في التنمية المستدامة لكل المدن العريقة في العالم، بما فيهم مدينة مراكش، التي عرفت في الآونة الأخيرة انتعاشة سياحية غير مسبوقة، حيث استقطبت وفي عز الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم استثمارات عربية ودولية بملايير الدولارات، اتخذت شكل مشاريع سياحية ضخمة، وتمت تقوية شبكة البنيات التحتية السياحية، وواكب ذلك برنامج دعائي على الصعيد الدولي للتسويق والترويج عالميا تجاوزت كلفته 150مليون درهم.
إن المؤهلات الطبيعية والاستثمارات الضخمة في قطاع السياحة جعلت مراكش تعيش طفرة عقارية وسياحية لم تشهد لها باقي المدن المغربية الأخرى مثيلا، فحولتها في سنوات قليلة إلى مدينة عالمية بامتياز، تستقطب مشاهير العالم في السياسة والفن والرياضة ونساء ورجال المال والأعمال…
ومما لا شك فيه أن الخبراء والمتتبعين أرجعوا الفضل في الإشعاع الدولي الذي حققته مدينة مراكش، إلى مآثرها التاريخية وتراثها الثقافي اللامادي الذي أسهم بشكل كبير في إغناء الهوية الثقافية للمغرب عموما ومدينة مراكش على وجه التحديد، فعندما نقول أن هذه الأخيرة تزخر بتراث مادي عريق، فهي تتوفر كذلك على تراث شفهي منقطع النظير يؤثر بالإيجاب على قطاع السياحة ويشجع على زيارة المدينة، فالكثير من السياح تستهويهم الثقافة الشفهية، لذلك فهذا الجنس الثقافي ساهم هو الآخر في إعطاء زخم جديد لمفهوم التراث الإنساني.
وبناء على آخر إحصاء أجري سنة 2006 من طرف مفتشية المباني والآثار التاريخية التابعة للمندوبية الجهوية لوزارة الثقافة بمراكش، أوضح أن المدينة تتوفر على 951 بناية تاريخية٬ وأن جميع مصنفات العمارة الإسلامية ممثلة في المدينة الحمراء٬ كما أن مآثرها تشرف عليها إما وزارة الثقافة أو وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أو الجماعة الحضرية لمراكش٬ بالإضافة إلى عدد من البنايات التاريخية التابعة لبعض الخواص. ومن هنا نتساءل إلى أي حدٍّ صمد التراث المادِّي الذي تزخر به مدينة مراكش؟ وما هي الإجراءات التي اتخذتها الجهات المسؤولة لحمايته من الاندثار؟
إن الحديث عن المآثر التاريخية التي تتوفر عليها مدينة مراكش هو موضوع طويل ذو شجون، لا يمكن حصره في بضع صفحات، وبالتالي يصعب استدراجها كاملة، لذلك سأقتصر على أهمها، والتي تتوزع بين المآثر الدينية والمدنية، بالإضافة إلى تلك التي كانت لها وظيفة أمنية وعسكرية.
• المساجد والمدارس
إذا كان المسجد بمثابة المعلمة الأولى في العمارة الإسلامية؛ فإنه يشكل كذلك البنية الأساسية لتكون المدينة الإسلامية، ولا غرابة أن يكون البناء الأساسي الأول لمدينة مراكش قد انطلق من المسجد، لكن إذا كانت آثار المسجد المرابطي المجاور لقصر الحجر حيث وجدت نواة المدينة، قد زالت، فإن بقايا الصومعة المرابطية لمسجد علي بن يوسف مازالت موجودة إلى حدود اليوم داخل فضاء المقبرة المجاور للمسجد المذكور.
ويعد مسجد الكتبيين أهم بناية دينية في تاريخ مدينة مراكش، ويعود بناؤه إلى العهد الموحدي، وقد شيد على أنقاض القصر المرابطي لعلي بن يوسف، الذي دمره الموحدون بعد سقوط المدينة في أيديهم سنة 1147م. وقد كشفت التنقيبات الأثرية التي قامت بها مديرية التراث الثقافي ما بين 1995و1996 عن بنيات وأسس هذا القصر مكملة بذلك ما سبق وأن كشفت عنه حفريات بداية الخمسينيات.
فبأمر من الخليفة عبد المومن(1130-1163م) شيدت الكتبية على مرحلتين، برز من كل واحدة مسجد لتأتي المعلمة مزدوجة وبصومعة واحدة، ولتبقى كذلك بضع سنوات قبل أن يتم التخلي نهائيا عن الجامع الأول الذي تم تشييده ما بين 1147 و 1157م، والذي لم يتبق منه سوى الأرضية، وبقايا أعمدة بيت الصلاة وجزء من حائط القبلة وخزان الماء. وقد تم الكشف عن هذه البنايات خلال الحفريات الأثرية التي تمت ما بين 1948 و 1952م من طرف مصلحة الفنون الجميلة بإشراف هنري تيراس وجاك مونيي.
أما صومعة الكتبية فتعد من روائع البنايات الإسلامية، حيث تم بناؤها بالحجارة المنجورة، يوجد بداخلها منحدر للصعود إلى أعلى الصومعة عبر قاعات مزينة بقباب يختلف شكلها من قاعة إلى أخرى. ويبلغ علو الصومعة 77 متر تقريبا، وهي مزخرفة في واجهاتها بنماذج من الأقواس والزليج الملون .
وإلى جانب مسجد الكتبية يوجد مسجدان آخران يشهدان أيضا على عراقة العمارة الدينية التي تزخر بها مدينة مراكش، الأول منهما هو مسجد القصبة، ويعرف أيضا بجامع مولاي اليزيد، وقد شيده الخليفة الموحدي يعقوب المنصور ما بين سنتي 1185 و 1190م، وهو متوجه إلى الأندلس في غزوته الشهيرة الأرك، ولما عاد مظفرا سنة 1197م، وجد الجامع قد تم تشييده على أحسن صورة، وبقي معماره صامدا بفضل الترميمات التي طرأت عليه في العهدين السعدي والعلوي والتي غيرت شيئا ما من ملامحه الأصلية.
أما المسجد الآخر فهو مسجد ابن صالح، الذي أسسه السلطان أبو الحسن المريني المعروف بالسلطان الأكحل في سنة 718هــ/ 1318م، وأوقف عليه أوقافا كثيرة، وفي سنة 1080هـ/ 1669م، جدده السلطان مولاي الرشيد العلوي، وأمر بتأسيس المدرسة التي بإزائه، ثم رممه السلطان سيدي محمد بن عبد الله كما جدد قبة الشيخ سيدي محمد بن صالح.
تدل هذه اللمحة التاريخية حول أهم المساجد العريقة بمدينة مراكش، على عراقة المعمار الديني بالمدينة وزخمه، لكن يبقى التساؤل: هل حافظت هذه المساجد على طابعها الأصيل؟ أم التهمها شبح الإسمنت المسلح؟ صحيح أن جل هذه الجوامع منذ تشييدها خضعت لإصلاحات سيما في العصر الوسيط، بحيث تختلف الأذواق المعمارية من دولة إلى أخرى أو من حاكم إلى آخر، لكن في السنين الأخيرة هدّدها شبح الانهيار بعدما طالها الإهمال والنسيان، إلى أن جاءت فاجعة انهيار صومعة مسجد باب البردعيين في مدينة مكناس سنة 2010، أودى بحياة 11 من المصلين الذين كانوا يصلون داخله، مما دقّ ناقوس الخطر أمام رمز العمارة الدينية في تاريخ العالم الإسلامي التي كان المغرب مضرب الأمثال في الحفاظ عليها، فكان ذلك سببا مباشرا في إعلان وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عن حملة إصلاح للمساجد العتيقة سيما في مدن فاس، مكناس، ومراكش التي نحن بصدد الحديث عنها، وتم بذلك تخصيص غلاف مالي مهم للحدِّ من ظاهرة انهيار المساجد.
لكن بالرغم من المراقبة الصارمة لعمليات الترميمات إلا أنه كانت مجموعة من الهفوات بخصوص الاستعمال المفرط وغير المهيكل للإسمنت المسلح الذي يحول دون إظهار الطابع المعماري القديم والزخرفة الأصيلة التي اشتهرت بها مساجد مدينة مراكش على مر العصور.
وإلى جانب المساجد لا يفوتنا الحديث عن المدارس العتيقة التي كانت تبنى بجوار المساجد، ولعل أشهرها وأعظمها مدرسة ابن يوسف التي بنيت على مقربة من مسجد ابن يوسف، وتعتبر من روائع المدارس المغربية، تم بناءها في عهد السلطان السعدي عبد الله الغالب خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1564-1565م، فيما عزا بعض المؤرخين تشييد هذه المعلمة إلى أبي الحسن المريني، لكنه أضحى من المؤكد في الوقت الراهن أنها تعود إلى السعديين، خاصة بعد اكتشاف ست كتابات عربية منقوشة تدعم هذا الطرح.
تحظى مدرسة ابن يوسف بأهمية بالغة، نظرا لموقعها الجغرافي الكائن بحي ابن يوسف، الذي يحمل دلالة تاريخية كبيرة، فضلا عن كونه النواة الأصلية لمدينة مراكش وقد أعاد السعديون الحياة لهذا الحي ببنائهم للمدرسة وترميمهم للمسجد المرابطي ثم تشييدهم للمارستان بعدما أصابه النسيان من جراء تقهقر الدولة المرينية.
شكلت المدرسة ذات الشكل المربع والتي تصل مساحتها إلى حوالي 1680 مترا مربعا على امتداد أربعة قرون معقلا للعلماء ومقصدا للطلبة المتعطشين للعلم والمعرفة في مختلف العلوم خاصة منها الدينية والفقهية. تم إيقاف الدراسة والإقامة بالمدرسة بعد بناء معهد ابن يوسف للتعليم الأصيل (دار البارود سابقا) سنة1940م. وقد خضعت المدرسة لأول عملية ترميم خلال فترة الخمسينيات ثم تحولت إلى مزار سياحي يحرص زوار مراكش على الاستمتاع بهذه التحفة المعمارية المتميزة. وتشرف على تسييرها في الوقت الراهن مؤسسة ابن جلون منذ سنة 1999م في إطار الاتفاقية التي سبقت أن أبرمتها مع وزارة الثقافة خلال نفس السنة.
وبنفس القيمة التي ذكرنا بها مدرسة ابن يوسف، هناك معلمة أخرى لا تقل عراقة ألا وهي مدرسة ابن صالح التي أفادتنا الإشارات التاريخية أنها شيدت في عهد المولى الرشيد العلوي بإزاء جامع ابن صالح سنة 1081هــ/ 1670م.
وقد كانت هذه المدرسة كنظيرتها الأولى مقصدا للطلاب من كل صوب وحدب، يحفظون بها القرآن ويدرسون العلوم الشرعية واللغوية على يد أشياخهم، لذلك كانت تعتبر أهم مكان ذا إشعاع علمي بالمغرب في أواخر القرن 17م، لكن بعد مرور السنين طالها النسيان ولم تعد تؤدي وظيفتها التعليمية التي كانت شيدت من أجلها، وبقيت على حالها إلى أن بادر المسؤولون في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بترميمها لكي تصبح متحفا للزوار المغاربة والأجانب، وستوضع به تحف نادرة ومتنوعة تجسد التراث الديني الذي كانت ولا زالت تتوفر عليه مدينة مراكش.
• سور مراكش وأبوابه
بنيت مدينة مراكش في مكان غير محصن طبيعيا عكس فاس وغيرها من المدن العتيقة، حيث ظلت منذ تأسيسها محاطة بسياج من النباتات الشوكية، فاستمرت على هذا الحال إلى أن احتدم الصراع السياسي والمذهبي بين المرابطين والموحدين، حيث برزت ضرورة حماية المدينة وتحصينها، وذلك ببناء سور يحيط بكل ما اشتملت عليه واحتضنته من تجمعات سكنية ومعامل وأسواق تجارية وعمائر دينية واجتماعية.
إن الهاجس الأمني كان من أقوى الأسباب التي دفعت الأمير المرابطي علي بن يوسف إلى تسوير مراكش لحمايتها من تهديدات المهدي بن تومرت وأتباعه الموحدين بعد استشارة الأمير المرابطي لبعض العلماء، من أبرزهم أبو الوليد ابن رشد، وكان ذلك مابين 1126 و1127م حيث تم انجاز أشغال البناء في وقت قياسي: 8 أشهر وكلف 70 ألف دينار ذهبي مرابطي.
يمتد السور المرابطي على مسافة 9 كيلومترات، وقد عرف بعد الزيادات في واجهته الجنوبية حيث شيدت حومة القصبة في عهد الموحدين أواخر القرن الثاني عشر ميلادي، ومن جهة الشمال أضيفت حومة الزاوية العباسية، وقاع المشرع التي تم إحداثها في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله في القرن 18م. وعلى غرار الأسوار التاريخية، شيد السور من مواد ترابية ” التابوت”، يتم خلطها بالجير بمعايير مضبوطة، بمعدل 2/3 من الرمل الأحمر و 1/3 من الجير ثم يوضع الخليط داخل قوالب مستطيلة مكونة من لوحتين تشدهما أخشاب للاحتفاظ بسمك الجدار المراد صنعه ويطلق على هذه العملية “تلواحت”.
أصبح السور جزء لا يتجزأ من مورفولوجية مدينة مراكش، ولم يعد مقتصرا على أداء الوظيفة التي أحدث من أجلها بل تعددت وظائفه بتزايد حجمها وعدد سكانها؛ فكان من الضروري أن تتخلله عدد من الأبواب قصد تسهيل عملية الدخول من وإلى المدينة، وقد تضاربت الآراء حول عددها، إذ بلغت إلى حدود العهد الموحدي 26 بابا، وكانت مقسمة إلى أبواب داخلية وأخرى خارجية، منها ما تعرض للاندثار، إلا أنه يمكن حصر عددها الحالي في 12 بابا خارجي فتحت في أماكن مدروسة بطريقة عقلانية.
وقد تعددت وظائف الأبواب التاريخية لسور مراكش مع اشتراكها في وظيفتي التنقل وتحصيل الجبايات (أداء المغارم)، وهكذا كانت بعض الأبواب تحمل أسماء تدل على وظائفها المتعلقة بالمكان الذي تستقبل منه السكان وتؤدى إليـــه:
– باب فاس تؤدي إلى الشمال
– باب دكالة تؤدي إلى الشمال والمحيط الأطلنطي.
– باب أيلان تؤدي إلى قبيلة هيلانة.
– باب أغمات تؤدي إلى أغمات
– باب نفيس تؤدي إلى مدينة نفيس المندثرة.
أما الوظائف الأخرى، فكانت حكرا على أبواب دون أخرى، فمنها ما ارتبط بالحرف الخاصة كباب الدباغين الذي توطنت بجواره حرفة الدباغة لقربه من وادي إسيل وإشرافه على هسكورة حيث وفرة الجلود ومنها ما ارتبط بالفلاحة خاصة باب الرُّب وهو عصير من العنب غير المسكر، حيث كانت هذه المادة تمر من هذا الباب أو تباع بجانبه.
كما شكلت الأبواب منفذا للمقابر والمصليات حيث قربها من السكان، هذا فضلا على أن بعضها لعب دورا في التشهير والترهيب في وجه المعارضين خاصة في عهد الموحدين والمرينيين كباب دكالة و باب فاس وباب الشريعة المرابطي الذي اختفت معالمه نهائيا بتأسيس حومة أكادير الموحدية. كما وكلت لهذه الأبواب وظيفة أمنية هدفها المساهمة في حماية المدينة من التهديدات التي قد تأتي من الخارج ومنع المتابعين في الداخل من الفرار.
وبالرغم من القيمة التاريخية لسور مدينة مراكش والأدوار التي لعبها على مر العصور إلا أنه يشهد اليوم في جزء كبير منه تدهورا يزداد استفحاله مع تفاقم وتعدد مشاكل المدينة كالتصدعات والشقوق العمودية والتآكل وعدم تجانس المواد المستعملة في الترميم مع المواد الأصيلة، وتراكم النفايات والسلوكيات اليومية التي تنم عن انعدام الوعي بما ترمز إليه هذه الأسوار من إرث حضاري كالتوجه نحو الأسوار للتغوط والتبول، وكثافة حركة المرور خاصة السيارات والشاحنات والحافلات، علاوة على أثر مياه السقي على الأسوار بفعل الرطوبة.
• العمارة المائية:
تحتل المنشات المائية في حقل الدراسات التاريخية والجغرافية وحتى الأنثروبولوجية أهمية كبرى، لأنها تلعب دورا محوريا في ضمان الاستقرار والاستمرار في استغلال المجال، وهي الوسيلة المثلى للحفاظ على توازن الموارد المائية وترشيد استغلالها للاستفادة منها على الوجه الأمثل في سقي المزروعات والأغراس في شتى المنظومات البيئية والظروف المناخية والبنيات التضاريسية.
ولا شك أن مدينة مراكش التي نحن بصدد الحديث عنها عرفت زخما كبيرا منذ تأسيسها بخصوص التقنيات المائية، التي لعبت دورا كبيرا في توزيع المياه واستقرار الإنسان بهذا المجال، إنه نظام أصيل لاستغلال المياه، ومن أولى التقنيات التي ظهرت بمراكش هي الخطارة التي تعتبر شبكة أو نظام من القنوات التي تعمل على التحريك الباطني للماء، ونقله على مسافات بعيدة دون تعرضه للتبخر.
حدد الشريف الإدريسي مصدر مياه السقي الذي اعتمدته الأراضي الفلاحية المجاورة للمدينة في آلية الخطارة قائلا “وماؤها الذي تسقى به البساتين مستخرج بصنعة هندسية حسنة، استخرج ذلك عبيد الله بن يونس المهندس”، وقد استخلص مجموعة من الباحثين أمثال: George colinوPaul pascon و Deverdun Gaston من نفس النص، أن دخول المهندس المذكور إلى مراكش تم في زمن حكم علي بن يوسف المرابطي، وبالتالي نفهم من إشارة الإدريسي أن تقنية الخطارة يعود استخدامها في مراكش إلى الربع الأخير من القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي.
وبخصوص عدد أو استمرارية هذا الشكل من التقنيات المائية ليس لدينا بحث أثري يوضح لنا عدد الخطارات التي أنشأها المرابطون والتي أنشأها الموحدون والسعديون، هذه المسألة لا يمكن الحسم فيها بشكل كبير، لكون هذه الخطارات تعرضت مرارا وتكرارا لعمليات الصيانة والتجديد. فالعديد منها جف، بمعنى أن هناك إشكالية الاستمرارية. وحتى إن أمكن القيام بالبحث الأثري، فمن الصعب تحديد تاريخها وأهم خصائصها، اللهم ما وثقته وأشارت إليه المصادر التاريخية.
يرجع ظهور وإنجاح تقنية الخطارة المراكشية إلى تظافر مجموعة من العوامل الطبيعية، وتتمثل في دور مورفولوجيا السطح والتكوين الباطني والبنيوي لقشرة الأرض المكونة لمجال مراكش أو مجال الحوز المراكشي، إضافة إلى عامل المناخ ودور الموارد المائية السطحية والجوفية في تغذية السديمة المائية لخطارات مراكش .
إن من يلقي نظرة عامة على خطارات القنوات الجوفية داخل المدينة وضواحيها يعاين أن باطن الأرض المراكشي يكون صورة لشبكة عنكبوتية ذات اتجاهات مختلفة تمر تحت الدور والحدائق منها ما يدخل إلى داخل الحاضرة من الجنوب ومنها ما ينطلق عن العمق المراكشي ويخرج إلى الشمال، ومنها ما يجري موازيا للأسوار الشرقية والغربية لسقي البساتين المجاورة. فهي تجري في السهول الغربية المتصلة لجبال الأطلس الكبير نظرا لخصوصيات وضوابط وظروف طبيعية.
مبيان تطور الفرشة المائية بحوز مراكش
يلاحظ من خلال المبيان أن وتيرة التراجع كانت بشكل كبيرة وقوية خلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الربع قرن، فقد انخفض مستوى الفرشة المائية إلى أكثر من ثلاثين مترا في سنة 2004، بعدما كان في سنة 1980 أقل من 15 متر. وهذا التراجع الهائل، أدى إلى تعطيل وموت جل الخطارات بمدينة مراكش. حيث إن السواقي الباطنية لهذه الخطارات لن تتمكن من جر الماء الموجود في “البئر الأم” بسبب تغوّره وتزايد عمق مياهه. والسبب في ذلك هو الاستغلال الكبير للفرشة المائية لأجل الري الفلاحي، وتوالي سنوات الجفاف أو بسبب تزايد الطلب على الماء بفعل التزايد السكاني الكبير. كما لا يجب أن ننسى أن المدينة أصبحت قطبا سياحيا مهما على الصعيد الوطني، مما زاد في حجم الطلب على هذا المورد. أضف إلى ذلك الزحف العمراني على مجال الخطارات.
ردمت أغلب الخطارات الآن بالأزبال والأتربة والقاذورات، واستغل بعضها من طرف الساكنة كقنوات لصرف المياه العادمة. هذا من طبيعة الحال له أبعاد تراثية وبيئية سلبية، حيث يساهم أولا في تشويه المنظر العام للمجال وتلويثه، وتدمير هذا الموروث التاريخي لمدينة مراكش ثانيا.
وإلى جانب الخطارات شكلت السقايات واحدة من أهم المنشآت المائية التي طبعت تاريخ العمارة المائية بمراكش، وهذا دليل أن هذه الأخيرة كانت تمتلك نظاما متطورا لتوزيع المياه سيما تقنية السقاية التي تعتبر مرفقا حيويا يندرج ضمن النسيج الحضري للمدينة فهي تنتشر في مواقع متعددة كالحومات، وهناك بعض الدروب لازالت تحمل درب السقاية. والسقاية هي نهاية شبكة من الآليات والمنشآت التي كانت تزود المدينة بالماء وتجعله قابلا للاستهلاك بدء من مصادر استخراجه الطبيعية مرورا بالسواقي وتجميعه وتخزينه في الصهاريج وأخيرا توزيعه على المدينة عبر قنوات وسواقي ليصل إلى السقاية نقطة الالتقاء بين المستهلك وهذا النتاج الطبيعي الحيوي.
من المرجح أن المرابطين استخدموا السقايات في عاصمتهم، كمنشآت معمارية ذات نفع عام يتجمع فيها الماء ويستقى منها، وإذا لم ترد في المصادر المتداولة أية إشارة إلى هذه المسألة، فإن اكتشاف بقايا مركب مائي مكون من خزان وثلاث سقايات بمقربة من جامع ابن يوسف من جهة وإشارة الإدريسي من جهة ثانية إلى إنشاء مجموعة سقايات قرب قصر الحجر في بداية حكم عبد المومن الموحدي، يمكن اعتبارهما مؤشرين مقبولين على هذا الترجيح.
وقد صمدت هذه المنشأة المائية لقرون من الزمن، بحيث إلى حدود سنة 1912 كانت مراكش تتوفر على 89 سقاية تزود أحيائها بالماء بدء بالقبة المرابطية النموذج الأصلي للسقاية، إلى السقايات السعدية المصنفة في عداد الآثار المغربية منذ 31 دجنبر 1921، ثم بعضا من السقايات العلوية المنتشرة بالمدينة. ولعل أبرز مثال لهذه التقنية داخل المدينة العتيقة بمراكش:
-سقاية المواسين: تنتمي سقاية المواسين إلى المجمع الديني الذي تم تشييده في عهد السلطان السعدي عبد الله الغالب مابين 1562 و 1563، ويتكون بالإضافة إليها من مسجد، وحمام وخزانة ومدرسة تحولت في مرحلة متأخرة إلى مدرسة قرآنية (المسيد). تقع هذه السقاية شمال قاعة الوضوء التابعة للمسجد، وتتميز بتصميم مستطيل تبلغ مقاييسه 10.18 متر طولا و 4.70 متر عرضا وهي تحتوي على ثلاثة أحواض مائية، وقد شيدت بهذا التصميم على نموذج سقاية علي بن يوسف المرابطي.
كان الحوض الأوسط يستعمل كخزان للماء أما الحوضان الجانبيان فكانا كمورد للدواب في حين أن السقاية كانت وما تزال مخصصة لاستعمال الإنسان. تزود بالماء عن طريق عين المواسين، وقد خضعت لترميمات في عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الرحمان سنة 1867م كما يدل على ذلك بيت على إفريز داخل السقاية: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا وكوكب المجد في العلا صعدا. وسقاية المواسين من أهم السقايات التاريخية بالمدينة سواء من حيث الحجم أو الزخرفة وهي النموذج المقتدى به بالنسبة للسقايات المتأخرة.
-أما سقاية شرب وشوف فيبدو من خلال الطابع المعماري لهذه المنشأة المائية أنها قد أنجزت في عهد الدولة السعدية، وهي تتكون من شرفة تضم حوضا مبنيا بالحجارة. وقد أنجز جزؤها العلوي من خشب يحمل زخرفا وهي عبارة عن خلية نحل ويعلو مجموع هذه العناصر سقف مائل مغطى بالقرميد الأخضر أما النقيشة المكتوبة بالخط الأندلسي فتشبه نقيشة سقاية المواسين.
والملاحظ أنها مازالت تحافظ على زخرفتها المدهشة التي تستهوي المارة خاصة السياح الأجانب، كما أنها تشكل استثناء باعتبارها السقاية الوحيدة التي صمدت أمام الاستهلاك السلبي للإنسان، وقسوة العوامل الطبيعية الحرارة، التبخر…..في الوقت الذي اندثرت فيه جل سقايات المدينة سيما التي تقع في أماكن (حومات) ذات كثافة سكانية كبيرة ينتج عنها تبذير المياه وعدم الحفاظ عليها، و ربما هذا ما دفع بالجهات المسؤولة عن توزيع المياه داخل المدينة العتيقة بإقفالها وقطع تزويدها بالماء.
وبنفس القيمة التي ذكرنا بها تقنيتي الخطارة والسقاية، لا يمكن أن نغفل منشأة أخرى، ألا وهي الصهاريج التي تعد أحواضا مائية لاستقبال وتجميع وتخزين المياه القادمة من الجبل، وتنظيم توزيعها على المدينة ومحيطها، عبر سواق وقنوات مخصصة لذلك. ويستفاد من الإشارات الواردة من المصادر المتداولة بخصوص هذا الجانب. أن العاصمة الموحدية كانت محاطة بشبكة من الصهاريج، لا نعرف بالضبط عددها. كما تضاربت الآراء حول تاريخ إنشاء هذه التقنية هل في زمن حكم المرابطين؟ أم الموحدين؟ بالرغم من وجود إشارات تاريخية تتحدث عن هذه التقنية وحضورها في عهد الدولة الموحدية من بينها إشارة صاحب كتاب الاستبصار حين حديثه عن مدينة مراكش قائلا: “وجلب الخليفة الإمام المياه من أودية درن …وبنى فيها وخارجها صهريجين عظيمين كنا في تلك المدة نعوم فيهما فلا يكاد القوي منا يقطع الصهريج إلا عن مشقة…”.
في هذا الصدد سنحاول تقديم جرد لأهم الصهاريج الموجودة بالمدينة من خلال المصادر والدراسات التاريخية التي تحدثت عنها، رغم قلتها ومجملها:
– صهريج البقر:
وردت إشارة عنه عند G. Deverdun، وهو يقع في الجنوب الغربي لمدينة مراكش، وربما قد يكون إحدى البركتين التي أمر عبد المومن الكومي بحفرها خارج مدينة مراكش لصالح مربي المواشي في المنطقة، وتبلغ مساحته حوالي 13200 متر مربع، بسعة قد تصل إلى 33000 متر مكعب. فيما يخص مسألة إنشائه فالأمر غير محسوم في المصادر والدراسات التاريخية، ويتضح من خلال هذه الإشارة أنه يزود الضاحية الجنوبية لمدينة مراكش بالماء.
– صهاريج أكدال:
يشير عبد الواحد المراكشي في معرض حديثه عن المنشآت والتجهيزات والمرافق التي شيدها الموحدون بمراكش خلال فترة الخليفة عبد المومن بن علي الكومي حيث قال:”ثم سار حتى أتى مراكش فنزلها وأخذ في البناء والغراسة وترتيب القصور غير مخل بشيء مما تحتاج إليه المملكة من السياسة وتدبير الأمور وبسط العدل والتحبب إلى الرعية وإخافة من تجب إخافته.” تفيد هذه الإشارة أن التجهيزات المائية كانت حاضرة لا محالة لسقي الغرس والحدائق، على اعتبار أن الدولة في حاجة إلى هذه التقنية لتدبير أمورها سواء في الفلاحة أو الشرب.
ومن جملة ما خلفه الموحدون بالمدينة صهريجا “دار الهناء” و”الغرسية” بحدائق أكدال فقد أشار الناصري إلى ذلك “قائلا: وذكر عبد الله أكنسوس أن غرق “الرشيد”(أحد خلفاء الموحدين توفي سنة 640هـ غرقا). كان في البركة الكبرى بدار الهناء من أجدال اليوم، قال: وكان يُقال لها البحر الأصغر لأن ملوك بني عبد المومن الذين أنشئوها كانوا يرسلون فيها الزوارق والفلك الصغار بقصد النزهة والفرجة والله تعالى أعلم.”
– صهريج بمقبرة باب أغمات:
أشار غاستون دوفردان، إلى وجود صهريج مرابطي بمقبرة باب أغمات لا يمكن أن تظهر معالمه للعيان إلا من خلال الصور الجوية، وموقع المقبرة الحالي كان به “جنان الصالحة” الذي قال عنه الناصري:”والصالحة التي أضيف إليها هذا الباب هي بستان كبير من جملة بساتين أجدال دار الخلافة بمراكش، ومازال هذا البستان مشهورا بهذا الاسم إلى الآن، وهو من إنشاء عبد المؤمن بن علي رحمه الله”.
– صهريج المنارة:
بني هذا الصهريج في عهد السلطان عبد المؤمن بن علي الكومي في القرن الثاني عشر لكي يتدرب فيه جنود الموحّدين على السباحة وفنون القتال البحري، قبل التوجه إلى الأندلس، أو الانتشار لحماية السواحل المغربية من هجمات الأوروبيين. هناك الإشارة التي ذكرناها لمجهول الاستبصار يشير أيضا إلى أن عبد المومن قام في الجهة الغربية للمدينة في اتجاه نفيس، بغرس حديقة مقابلة لقصره وهو ما يدفع للاعتقاد بأن الأمر يتعلق بحديقة المنارة وصهريجها الكبير.
وقد كانت لتقنية الصهاريج مجموعة من الوظائف والأدوار يمكن إجمالها فيما يلي:
– تزويد المدينة بالماء الصالح للشرب.
– سقي الأراضي الفلاحية .
– تزويد المرافق العمومية بالمياه كالمساجد، الحمامات، السقايات .
– تقديم الماء الشروب للحيوانات.
– وظيفة عسكرية بخصوص (صهريج المنارة) الذي كان يتم فيه تدريب الجنود وإعدادهم للقتال.
يتضح جليا أن تقنية الصهاريج تعتبر من بين التقنيات المائية المتجذرة في تاريخ المجتمع المغربي؛ إذ ساهمت في الرفع من اقتصاد المدينة المغربية عامة ومراكش خاصة على المستوى الفلاحي، فبفضلها تم التحكم في كمية كبيرة من الموارد المائية وتزويد الدور والساكنة وكل المرافق التي لها نفع عام بما تحتاجه من ماء، لكل هذه الأسباب كان لهذه التقنية إلى جانب باقي التقنيات الأخرى كالسواقي والخطارات والسدود التي شيدها الإنسان المغربي من أجل تلبية حاجاته إلى الماء، خصوصا في المناطق التي تتميز بالندرة والمناخ الشبه الجاف كمدينة مراكش، دور هام في تجميع المياه القادمة من جبال الأطلس الكبير، واستعمالها إما للشرب أو سقي البساتين والحقول.
كما نجد أيضا أن بعض الصهاريج استطاعت في جوانب كثيرة المحافظة على دورها التاريخي، ولا زالت تعتبر إرثا حضاريا مهما، في الوقت الذي نجد صهاريج أخرى اختفت بفعل التطور العمراني والحضاري ودمرت هذه المنشآت التي تعتبر من أهم مرتكزات التراث المدني والحضاري للمدينة المغربية والتي من المفروض الحفاظ عليها .
ومن نافلة القول إن مدينة مراكش تزخر بتراث حضاري مادي يعكس تاريخها على مدى قرون خلت، ولعل تصنيفها ضمن التراث العالمي خير دليل على ذلك، كما أنها أضحت قبلة للسياح من كل حدب وصوب.
لكن رغم المجهودات المبذولة من طرف مفتشية المباني التاريخية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للحفاظ على هذا الموروث التاريخي إلا أنه لا زالت مجموعة من المعالم الأثرية في حاجة إلى الإصلاح والترميم لصونها من شبح الاندثار. ولهذا وجب على الإعلام أن يلعب دورا فعالا في حماية تراث مدينة مراكش، وذلك عبر بث برامج تلفزية خاصة ترمي إلى توعية الأطفال والشباب، وتوليد حس الفخر لديهم بتراثهم. إلى جانب تصميم مواد ومساقات في إطار المؤسسات التعليمية، والعمل على بيان الأبعاد الاقتصادية لحفظ التراث المادي، وتشجيع الوسائل والطرائق الرسمية وغير الرسمية للمساهمة في نشأة جيل من الشباب الواعي بتراثه.