الجزء السابع:
لقد لعبت هذه الشبكة المائية المتنوعة من السواقي دورا أساسيا في المشروع السعدي لصناعة السكر بسوس. ذلك ان المياه كانت توجه عبرها، بعد سقي الحقول، بتقنيات عجيبة قصد تدوير مراوح المركبات المائية لطحن القصب؛ والتي كانت تتواجد بضواحي مدينة تارودانت، بـ”تيوت” و”تزمورت” و”أولاد مسعود”.
ويعد المركب الأخير، حسب الأركيولوجيين، نموذجا فريدا للمركبات الصناعية الهيدرولوجية بالمنطقة خلال الفترة السعدية. يتميز موقعه بتواجده بمنطقة سهلية (سهل أولاد بورويس) بين رافدين مائيين هامين من روافد “سوس”: واد “أرغن” وواد “سداس”. يبعد بحوالي ست (6) كيلومترات تقريبا من العاصمة “المحمدية” (تارودانت)، على الضفة اليسرى لـ”وادي سوس”. ولا تفصله سوى بضع كيلومترات أخرى نحو الجنوب (حوالي 16 كيلومترا) عن حقول القصب بمنطقة “إرازان”. وقد ارتبط اسمه بدوار “أولاد مسعود” الذي لا يبعد عنه سوى ببضع مئات الأمتار فقط باتجاه الشمال الغربي (ذ. محمد بوجنيخ)
بني المعمل السكري “أولاد مسعود” على مساحة تغطي الهكتارين تقريبا. ويبدو من خلال بقاياه الأثرية أن جل الغرف الملحقة به قد اختفت تماما؛ باستثناء حائط لا يزال جزء كبير منه قائما، والذي كان مخصصا، على ما يبدو، لحمل الساقية التي كانت تزود المركب بالماء. حيث تظهر آثار نهايتها عند المدخل.
ولقد مكنت التنقيبات الأثرية الميدانية التي قام بها الباحث الأركيولوجي Paul.BETHIER سنة 1958 من وصف وتحديد مجموع بنايات الموقع، وذلك من خلال الاستعانة بتقنية المسح الجوي الذي ساعدت على التوصل إلى اكتشافات مذهلة كانت مجهولة من قبل؛ ومكنت من فهم كيفية اشتغال هذا المركب المائي البديع، على ضوء مقارنته مع معامل سكرية أخرى تعود لنفس الفترة، بمدن ومواقع سعدية أخرى خصوصا بـ”شيشاوة” و”الصويرة”.
تبدو الشبكة المائية، داخل هذا المركب السكري، مثيرة جدا. ففي الحين الذي اندثرت فيه بعض عناصرها، لا تزال معالم بعضها الآخر واضحة تشهد على عظمة العمارة المائية السعدية. ولعل أبرز ما يُثير الانتباه بهذا المركب عظمة القناة المائية التي كانت تمده بالمياه؛ والتي تفوق في حجمها تلك المرتبطة بمركب “تزمورت”. فمن هذه القناة كان يبدأ عمل الشبكة الداخلية للمعمل كله، والتي يُمكن أن نميز فيها بين أجزاء رئيسية أخرى كالقناة المائية المعلقة الضرورية لتحريك أرحية المعصرة، قاعة الطحن أوالطاحونة، التي لاتزال بعض جدرانها واضحة، ثم صهاريج التخزين وقنوات تصريف المياه المستعملة..
– القناة المائية المعلقة: مُحرك “أرحية” المركب المائي”أولاد مسعود”:
بُنيت هذه القناة، حسب الباحثين، خلال القرن (16) السادس عشر. وكغيرها من المنشآت المائية العظيمة، فإنها تُبين نوعا من التحدي الذي كان يواجهه الإنسان خلال تلك الفترة، وهو إيجاد الماء، الذي اعتبر مجرى “واد سوس” مصدره الوحيد بالمنطقة. وكانت هذه القناة قادرة على تزويد المركب السكري بالماء الضروري و لو بصبيب غير كاف في بعض الأحيان.
الى حدود اليوم، فحوالي 800 متر من طول هذه المنشاة هي أحسن ما لا يزال قائما بالمركب السكري المذكور. وهي مأخوذة من “الساقية المهدية الفوقانية” التي تجلب جزءا من ماء “الساقية المهدية” الرئيسية نحو مطاحن السكر بـ”أولاد مسعود”. وكان الماء يوجه عبرها بعناية وبشكل انسيابي بديع ليصل نحو مكان سقوطه داخل طاحونة المعمل. حيث تأخذ هذه الساقية شكل “U ” على بعد ثلاثين(30) مترا تقريبا من وصولها إلى المعمل. تبتدئ بعرض قدره حوالي المتر، وبعمق يصل إلى 0.60 من المتر (60 سنتمترا)… لتتقلص أبعادها شيئا فشيئا قبل أن تنتهي بطول أربعين (40) سنتمترا عند مكان تساقط المياه على الأرحية داخل طاحونة المعمل. ويتبين من جدرانها الداخلية أنها بُنيت ببلاط من الجير الخلوط بالطين والمدعم بالحصى؛ وبسمك عريض جدا ومقاوم.
كلما اقتربت هذه الساقية من “الطاحونة”، كلما ازداد ارتفاعها ليصل حوالي تسعة (9) أمتار تقريبا عند نهايتها، مما يفسر القوة الحركية الهائلة التي باستطاعتها احداثها عند سقوط مياهها على مراوح أرحية الطحن. حيث تؤكد القياسات الدقيقة التي قام بها بعض الأركيولوجيين بأن ارتفاعها يبلغ مستوى الصفر (0) عند التقائها بالساقية الرئيسية التي تغذيها (المهدية الفوقانية)، ليرتفع هذا المستوى، بعد مسافة 200 متر من هذا المأخذ، إلى نحو 4.50 مترا ثم إلى تسعة (9) أمتار من العلو عند مستوى سقوط المياه داخل غرفة طحن القصب (BIANCHI- Salmi).
ويبدو من المود التي استخدمت في بناء هذه المنشأة أنها مواد محلية أخذت من نفس الموقع. وأن تقنية بنائها وهندستها ولونها، يؤكدان أصالتها بشكل يتناغم مع البيئة المحلية لسوس. كما أن الحائط الذي يحملها يبدو مخرما بعدة ثقوب ناتجة ربما عن ثقوب الألواح الخشبية التي استعملت في بنائه بخليط من التراب والجير، وباعتماد تقنية تلواحت كتقنية محلية للبناء…
…يُتبع
*طالب باحث في التاريخ