د محمد فخرالدين
قال الراوي :
و بعد ذلك انفردت الاميرة ذات الهمة بنفسها و طلبت جناحا خاصا ، و لما أفرد لها الجناح وضعت أمامها الخرائط التي أعددتها دون ان تنسى اعادة قراءة خطط جدها الصحصاح فوجدت من بينها خريطة تفصيلية للطريق التي تسلكها و كانت خريطة عجيبة بها كل التفصيل حتى الصخور و المزالق البحرية مذكورة هناك ..
ثم استشارت أولا ثعلبة بن الحصين كبير البصاصين و ثانيا مقربيها من المهندسين الحربيين و من قادة الجيش عن مواصلة التحرك ، فلقد كان فك حصار أمد مجرد بداية لهجوم كاسح كانت الأميرة تنوي شنه على الروم ، و محاولة فتح مناطق جديدة من بلاد بيزنطة ، فأشاروا عليها أولا بأنه لابد من الوصول الى المرفإ حيث تنتظرهم السفن الحربية لتدبير الهجوم في الوقت المعلوم ..
و طلبت الأميرة ذات الهمة من القادة الاستعداد للحركة في اتجاه المرفإ ، فالمدينة ليست إلا خطوة على طريق تحرير الثغور ، و اجابوها بالتهليل و التكبير ، و الاستعداد للمسير و ساروا في الطريق كانهم السيل ..
ولما وصلوا المرفأ وجدوا مئات السفن تنتظرهم هناك ،و هي في كامل عدتها كما رتبت لها الأميرة ذات الهمة ، فنادت الأميرة قادة السفن و أعطت أوامرها بالحزم في السير في اتجاه واحد ، و توزع الجنود و ركبوا سفنهم في الحال ، و مدت الأشرعة ، و أطلقت الحبال ،و سارت المراكب تخترق الأمواج ،و تعبر البحر الأجاج المتلاطم بالأمواج ..
أما ما كان من أمر الأميرة ذات الهمة فقد تقدمت السفن و هي تقود سفينتها في اتقان و خفة في اتجاه الروم ، فهي تعد من أجود الربابنة العالمين بالبحر و طرقه فكانت كل مرة تتجنب الصخور التي تحطم السفن و المراكب و تمزقها قطعا كما يمزق المقص القميص الرقيق ..
و بينما هي في الطريق و قد ناسبتها الريح فانساب أسطولها بسرعة و كان الجو صافيا قليل العواصف كما كانت الرؤية جيدة ، و لما صعدت الى ظهر السفينة رأت الجنود منشغلين بتداريبهم اليومية ، و رأت الصيادين منشغلين بتحصيل السمك بصناراتهم لإعداد طعامهم ، و دنت منها التفاتة فبصرت قلعة كبيرة عالية ضخمة البنيان مشرفة على طريق البحر معترضة كل تقدم للسفن ، و قد نصبت فيها المدافع على الجدران و أطل من أعلاها الجنود و الفرسان ..
و لما سألت عنها الربان قال لها ان هذه القلعة هي قلعة حصينة ، وهي باب جزيرة مالطينة ، و هي لأميرة رومانية اسمها باغة ، وهي من أبرع قياد الروم التي تهاجم ثخوم المسلمين ، و لا بد من الهجوم عليها في الحال قبل أن تهاجم السفن بمدافعها و أسلحتها النارية ..
نادت الاميرة الجميع بالوقوف فتردد نداؤها حتى وصل كل السفن ، فتوقف الجميع و هم ينتظرون قرار ذات الهمة و أمرها المطاع ..
اما الاميرة ذات الهمة فقد كانت لا تحب التسرع و الاستعجال خاصة في مثل هذه الأحوال ، لذلك كتبت رسالة في الحين و ارسلت الرجال بها الى اميرة القلعة ،و فيها تقول :
ـ من القائدة الاميرة ذات الهمة قائدة جند المسلمين الى الاميرة باغة اعلمي أنك لا بد لك من الاستسلام ،و تربحي منا السلام ، و إلا فاعلمي اننا داخلون قلعتك هذا اليوم بالتمام ، و من أعلم فقد انذر و السلام ..
فلما وصلت الرسالة الى باغة وعلمت بفحواها زاد غضبها و كادت تقتل الرسل الا أنه رجعت عن ذلك و كتمت الأمر ، و فكرت ان تستخدم الحيلة كوسيلة ، فأكرمت الرسل غاية الإكرام ،وطلبت منهم أن يخبروا ذات الهمة أنها تجيب الاميرة بالاستسلام ،و تدعوها الى الحضور عندها من اجل تقديم واجب الضيافة ، و انها كانت تفكر في الدخول الى دين الاسلام و للإضافة أرسلت لها هدية فاخرة ،و قالت للرسل : ارجعوا عندها و قدموا لها هديتي و اطلبوا منها الحضور و السلام..
ثم ان الرسل رجعوا بالكلام و الهدية و السلام ، ففرحت الاميرة ذات الهمة فرحا شديدا ، لكن ثعلبة بن الحصين الذي كان حاضرا ، نبهها إلى الأخطار التي تحيط بذهابها إلى تلك الديار ، فلم تنتبه من حسن نيتها و سارت في الحال عندها ،برفقة بعض رفيقاتها قبولا بالضيافة ،و طلبت من القادة الوقوف في المكان و انتظار أوامرها..
و ما أن وصلت الاميرة و رفيقاتها الى القلعة حتى كانت المفاجأة ، فقد التقاها جنود باغة في الحال واوقعوا في ايديهن الاصفاد الثقال ، و ساقوهن في الهوان و الاذلال الى السجون و الأغلال ..
فندمت الاميرة على ما كان منها من استعجال،و انها لم تأتمر بما أشار به ثعلبة ، وأوكلت امرها الى الكريم المتعال ، تم ان باغة ظهرت و هي تستهزئ من ذات الهمة ، و كيف انها غرة صدقت ما يقال ..
فأجابتها الاميرة ان هذه الاعمال ليست من اخلاق الأفضال ، و ان المكر و الخديعة يلجأ اليها الأرذال ..و قالت لها أنها تتحداها في الحرب و النزال .