د محمد فخرالدين
قال الراوي :
و لما اقتربت الاميرة ذات الهمة من مشارف مدينة امد ،رٍأت مدينة عالية البنيان شاهقة العمران ، تحيط بها الأسوار و الحدائق ، كما رأت جنودا كثرا محيطين بالمدينة من كل الجهات ..
فأرسلت ثعلبة بن الحصين في طلب الأخبار فعلمت انهم جند الروم يحيطون بالمدينة و هم يحاصرونها منذ شهور من أجل دخولها و السيطرة عليها و قد قطعوا طرق الإمداد عنها من كل الجهات فأجاعوا أهلها جوعا شديدا.
و كان أمام ذات الهمة أمران اتخاذ القرار بفك الحصار عن المدينة في الحال على سبيل الاستعجال أم لا تستعجل في ذلك حتى تتوضح لها الأمور ، كان القادة ينتظرون أوامرها و هم منقسمون في اتخاذ القرار ، هل تعلن بداية الهجوم، أم تتريث حتى تصلها المزيد من الأخبار ثم تقرر الانتشار ..
فلم تنتظر غير قليل حتى وصلت الأخبار ، بكون أهل المدينة على وشك الهلاك و هم في بلاء و ارتباك ، و انتشرت بينهم الامراض و كثر الموتى بسبب الحصار و طول الانتظار .
و قد راسل السكان الخليفة في بغداد ، و اشتكوا له أسباب هذا الفساد من أجل فك الحصار على أهل المدينة دون أن يصلهم جواب، و هم يناشدونها أن تحررهم من هذه الأعطاب و هذا هو عين الصواب .
فلما سمعت الاميرة ذات الهمة رجع الجواب ، و ما فعله الأعداء بسكان المدينة و كيف كالوهم كل أنواع الاستبداد ، أعلنت الهجوم في الحال فانطلق الجيوش و الفرسان من المشارف كالسيل و الوديان ، و أحاطت بجيوش الأعداء الذين كانوا يحاصرون مدينة أمد من كل جانب في النهار قبل الليل ،وهاجمتهم بفرسانها و حملوا عليهم بالسهام و السيوف و الرماح ، و دخلت ذات الهمة وسط الفرسان و ضربت بالسيف و الحسام ، و سقت من بارزها من الشجعان كأس الموت الزؤام ، و بقيت في الحرب و القتال حتى اذنت الشمس بالرواح ، و دقت طبول الانفصال فرجعت إلى معسكرها في الحال ..
و باتت ذات الهمة تتداول مع قادتها سبل الكفاح و تعالج منهم الجراح ، و في الصباح خرجت ذات الهمة الى الميدان و طلبت مبارزة قائد الروم ويليام ، فخرج يجر أذياله و هو في كل كبريائه و خاصة لما علم انه يبارز امراة ، و هو الفارس المقدام و الاسد الضرغام ، و هو الان يتقدم و سط هتاف الفرسان ..
اما ماكان من امر ذات الهمة فلم تنتظر وقتا كثيرا فقد حملت عليه و اقتربت منه و لاصقته و راوغته و اتعبته في المناورة و الشد و الجذب و قرع الحسام ، ثم صاحت امامه صيحة قوية ارتجت لها القيعان و رددتها الوديان، فالتفت قائد الروم ليرى ما يحدث ،و لم هذا الصياح ، فعالجته ذات الهمة بضربة جبارة بالسيف ، فخر صريعا مجندلا يخر في دمه ، و صار الى النار و بئس القرار ، اما ماكان من جنود الروم فإنهم لما رأوا ما حل بقائدهم ، صاروا يهربون مثل الارانب في البراري و القيعان ، و ينطلقون فارين إلى كل جانب ..
فأمرت الأميرة ذات الهمة فرسانها بالهجوم على الطريق المعلوم على من تبقى من الروم ،و على المكان الذي تحصن فيه قادتهم في مدخل المدينة ، فانسحبوا و هم يولون الأدبار ، و أبلت الأميرة ذات الهمة البلاء الحسن و فكت حصار مدينة أمد.
و دخلت الاميرة المدينة و حررت طرقها و منافذها من الروم و بيزنطة ، ففرح بذلك السكان فرحا شديدا ، و زال عنهم البؤس و التهديد و التنكيد ، و دعوا للأميرة ذات الهمة بالنصر و التأييد ..
وفكت الاميرة ذات الهمة وثاق الاسرى من المسلمين وحررتهم مما كانوا فيه من ذل و هوان فقاموا لها على الاقدام و شكروها على كل ما كان ، و فتحت خزائن الروم و حصلت على ما فيها من أموال و كنوز وزعتهم على جنودها في الحال و لم تنس سكان المدينة من الفقراء و المحتاجين و المستضعفين ، فتم الفرح بالنسبة للجميع و مدت اسمطة الطعام فأكل الخاص و العام ، و دامت الافراح مدة من الزمان حتى لم يبق أحد جائعا في المدينة ، و استخلفت عليهم الاميرة ذات الهمة قائدا من قوادها و رجلا عادلا من رجالاتها و اوصته ان يعدل بين الناس و ان يحكم بينهم بالقسطاس المستقيم ..