د محمد فخرالدين
قال الراوي :
و أنهى الخليفة الجمع بإعلان الجهاد في الحال ،و أمر بدق طبول الحرب و القتال ، و انفض الديوان على آخر الأخبار ،و اعلن القادة الاستعداد و استدعوا كل الرجال بقبائلهم و أسماء زعمائهم ، و توزعت الرجال و الفرسان على الفرق و السريات و الفيالق، و تم تجميع السلاح من كل المناطق ، و من الخوف من هول المعارك هرب كل منافق ..
و انفصل الرماة بالسهام عن الطاعنين بالرماح، كما انفصل الراجلون عن الفرسان، و أصبح كل واحد في مكانه المخصوص له ،في تنظيم بديع رغم كثرة العدد و العتاد ..
ثم جاء نداء الانطلاق و نطقت الأبواق تؤذن برحيل الجيش الجرار جيش المسلمين ، و هو مابين سبعين الف فارس بين مدرع و لا بس في الحديد غاطس ، فسارت الجيوش من أرض الخلافة السعيدة بغداد قاصدة ثخوم الشام لتحرر البلاد من تحالف بيزنطة و الروم ، و كلهم حماس و تكبير، تتقدمهم قائدة الجيوش الاميرة ذات الهمة و الامير عبد الله.
و الناس على جوانب الطريق يعجبون من هول المشهد ، و لا يصدقون ما يرونه بأعينهم فيعتقدون انهم في حلم ، فيشتد هتافهم بحياة الخليفة و حياة الاميرة ذات الهمة قائدة الجيش ، و هو منظر لم يألفوه من كون قائدة الجيش هي فارسة من الفرسان ..
اما النساء فكن قي كامل البهجة و هم يرون واحدة من بنات جنسهن تقود جنود الخلافة بجدارة و استحقاق ، و قد لبست لباس القتال و تقلدت السيوف الثقال و الدروع اللوامع ، فلم يعقها ذلك عن خفة الحركة و تلك الرشاقة التي عرفت بها المرأة العربية ، و هاهي تتقدم الجيوش وراءها الأمير عبد الله ، و هي تركب حصانها الأدهم و هو من الخير الجياد التي ليس له مثيل في كل البلاد..
و كانت الأميرة ذات الهمة اثناء تقدمها للجيوش ،ترد السلام بمثله و التحية بأحسن منها ، فقد كان طبعها التواضع و التودد لكل الناس دون غلو او كبرياء ، و كان يحيط بها كوكبة من أجاود الفرسان انتخبتهم لرفقتها و حراستها من أي مكروه ..
أما ما كان من أمر عمها ظالم و ابنه الحارث فقد كانا من جملة رفقاء الحملة ، فلما رأيا ما تتمتع به الأميرة من مكانة عند الخليفة حتى كلفها دونهما بقيادة الجيوش و تحرير الثغور ، و تقدم الصفوف ، غضبا كل الغضب و فكرا في كل سبل العطب ، و لما رأيا أيضا ما تتمتع به من احترام لدى الشعب و القادة ، و أن امرها مطاع بعد امر الخليفة على خلاف العادة ، مالت نفسهما للحقد و الشر ، و العمومة قد تدفع الى مثل هذا الأمر عند منعدمي الذمة ،و أصبح القلب منهما مكلوم و لم ينبسا بكلام معلوم ، اما الحارث فقد صار كأنه محموم من شدة الحسد و الهموم و أصبح من وطأته في حكم المعدوم ،و الحسد يأكل قلب صاحبه كما تأكل النار هشيم الحطب ، اما ما كان من امر ذات الهمة فقد كانت في غفلة شديدة عما يقع حولها، بل كانت تفكر في جسارة المهمة التي كلفت بها ، و كيف يمكن أن يؤديها على أحسن حال .
و سارت جيوش الاميرة ذات الهمة ايام و ليالي مدة طويلة دون ان تتوقف ، لا تسمع و هم في طريقهم إلا صهيل خيل قوية تردد على الجنبات ، و همهمة الفرسان بين الأفواه و الوجنات، و ذات الهمة تتقدم الجيوش و تستقرئ الطرق عن طريق نجابها الخفاف ، درءا لكل خطر و الحذر واجب في هذا المقام ، فقد كانت تهمها كل روح من أرواح جنودها، فكانت عندما تدرك حاجتهم الى الراحة فتتوقف حالا للاستراحة ليأخذ الجميع حاجته الى الراحة و الطعام ..
و عندما كانت تلاحظ تعثر المسير و حاجة الخيل الى التيسير ، تسلك طرقا سهلة الوصول بعيدة عن الوعثاء ،و كل مرة يتقدم احد القادة ليخبرها بكل جديد من أمر الجنود ،فتعطي اوامرها لكل واحد ليعود الى موقعه بالتحديد دون أن يحيد .
و بعد ان استراحت الجيوش و أخذت الخيل حاجتها من الطعام و الوراد ،أعلنت الأميرة ذات الهمة مواصلة الطريق في اتجاه الشام ، و سارت بجيوشها فترة طويلة ، و لما اقتربت من مشارف مدينة امد ، رأت جنودا كثر محيطين بالمدينة ،فطلبت الأخبار من كبير البصاصين ثعلبة ابن الحصين ، فأجابها في الحال ، فعلمت انهم جند الروم يحيطون بالمدينة و هم يحاصرونها من أجل السيطرة عليها، و قد حاصروا المدينة و أجاعوا أهلها جوعا شديدا بقطع طرق الإمداد عنها من كل الجهات ….