د محمد فخرالدين
قال الراوي :
و قد استغل الروم انشغال المسلمين بحروبهم الداخلية و ضعفهم و انقسامهم ، و عدم دراية قادتهم الجدد بالحرب ، و استرجعوا كل ماضاع منهم ، بل صاروا يهددون الحكم في بغداد ..
و استرجعت الاميرة ذات الهمة مسلسل الاحداث التي تستعرض امام عينيها الملتهبتين بالسهر، و جسدها المنهك من قسوة التدريب اليومي..
لقد كانت دائما تحذر الخليفة المنصور في بغداد من الأخطار المحدقة و أطماع الروم التي تنتظر الانقضاض على الخلافة ، و كان يطلب منها ان تتريث بينما تستقر أحوال الخلافة، و الان استقرت الخلافة فماذا ينتظرون ؟ انها على أتم الاستعداد للانتقال للتو الى الثغور البحرية ومقارعة الخصوم الند للند ، ستهزمهم لا محالة فهي موعودة بالنصر، هذا هو همها الوحيد و الوعد الذي ندرت له نفسها بالسير على خطى جدها الصحصاح ..
كانت الاميرة تنتظر البشرى من عاصمة الخلافة ، فهل تكون بشرى قريبة فيرسل إليها الخليفة لتكون قائدة جيوش المسلمين على الثغور ، لم لا إنها قائدة جيش لا تقل شيئا عن جدها الصحصاح و لا عن الامير مسلمة نفسه ..
مع توالي الأيام زادت قوتها و القبائل التابعة لها و الفرسان المستعدين للحرب إلى جنبها ، كان كلامها لا يخلو من حماس دائم و ايمان تام بالانتصار ، مما كان يجعل الشبان يلتحقون بمعسكراتها و لا يغادرونها أبدا ، وكانت تحفزهم دائما ليظهروا تفوقهم في الفنون الحربية و الهندسية ..
شخص واحد كان لا يحب ما وصلت اليه الأميرة من شأن و أي شان ،إنه ابن عمها الحارث ، فقد كان يكره منها ما هي عليه من عناد ،و كان لا يريدها أن تنازعه مكانته في القبيلة و لا عند الخليفة المنصور ، صحيح انها ابنة عمه و من دمه ، لكنه كان يكره أن تصير قائدة للجيوش بدلا عنه .
و فكر ان ينهي من تعنتها و رغبتها في ان تخوض المعارك و الحروب بالزواج منها ..
و بالفعل تقدم لخطبتها صحبة ابيه و عمها الحارث ، و ما أن علمت بالأمر حتى غضبت غضبا شديدا ما عليه من مزيد ، و لم تقبل منه أي تهديد ، فلم تجبه الى طلبه في الحال ، و جعلت طلبه من باب المحال فانصرف يرغد و يزبد ، حانقا وهو يدمدم بكل عبارات الحقد و الانتقام يدعو بالويل و الثبور و عظائم الأمور ،منتظرا الفرصة السانحة ليقوم للوصول الى طلبه بالاحتيال ، لقد كانت التقاليد القبلية تعطيه هذا الحق في شبه امتلاك ابنة العم و الزواج بها على الرغم ، اليس أحق بها من غيره أن تسنح الفرصة لقد كانت التقاليد القبلية تعطيه الل..
و لم تكن الاميرة ذات الهمة لتستجيب لطلبه و لا ان تعتبر أن له أي حق عليها ، فهي تؤمن بحريتها في الاختيار ، و أن المجد لن يكون إلا بالسير على خطى جدها الصحصاح و تنفيذ وصيته و ليذهب الحارث و امثاله الى الجحيم ..
و تطورت الأحداث بسرعة و صارت أكثر خطرا ، و أعلن الروم الحرب على المسلمين حربا ضروسا بدون هوادة تجعل الشباب شيبا من أهوالها ، لقد أسقطوا خلالها عدة بلدان أمد وقبرص ومالطية وقرطاج ، واجتاحوها اجتياح المنتصرين ، و أسروا المسلمين بالآلاف ، و قتلوا الأطفال الرضع ، وبقروا بطون الحوامل والأمهات، وصلبوا المحاربين العرب على أسوار المدن و الحصون ..
و استمرت الاميرة ذات الهمة في الاستعداد و تحصيل العدة و العتاد ، وجمعت فرسانها و جيوشها و هي تحمسهم لأول نداء منها ، ثم قالت و هي تستبطئ أمر الخليفة :
ـ ماذا تنتظرين يا بغداد.. الم يحن الوقت للتحرك بعد ؟ ماذا ننتظر ؟
و أخيرا جاء الخبر السار كالثلج على جبين المحموم ، لقد أعلن الخليفة المنصور الجهاد من بغداد ، لقد تذكر أخيرا تحذيرات ذات الهمة و صواب رأيها الذي كانت تحمله رسائلها بالتحرك و الهجوم ، و يدرك خيبة مستشاريه الذين كانوا ينصحونه بالتريث و عدم الاستعجال في اتخاذ القرار ..
لقد صار الخطر الداهم على المشارف وشيكا يقترب يوما عن يوم و قد يأتي على الأخضر و اليابس ،و كان يتمنى ان تحضر الاميرة ذات الهمة بين يديه في الحال لترشده الى طريقة لدفع الخطر المحدق بالخلافة ..
و بعد أيام ظهرت في الافق رسل الخليفة الى الأميرة ذات الهمة، و صاروا يتقدمون بأعلامهم السوداء ، و طلبوا لقاءها في الحال على وجه الاستعجال .