في مثل هذه الفترة قبل خمسة أعوام، تمّ إعلان فوز “باي باي جيلو” بجائزة المسابقة الدولية لنصوص المونودراما بالفجيرة. سنة بعد ذلك، تمّ اختيار النّص من طرف لجنة مشكّلة على هامش مهرجان أفنيون الفرنسي ضمن مشروع النّص المسرحي العربي المعاصر. وهو مشروع أوروبي يشجّع الدراما المعاصرة في العالم العربي ويدعّم إخراج وإنتاج المسرحيات العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا.
شيء ما جعلني أرتاح إلى قدر هذا الصعلوك النبيل الذي بزغ إلى الوجود في خريف 2010. الجيلالي، الملقّب بجيلو. شاب مغربي قدم إلى بلجيكا وأقام فيها بطريقة غير شرعية قبل أن يجد نفسه مرميا في طائرة، تحت حراسة شرطيّين، قصد ترحيله. منذها، لم يتوقّف هذا المهاجر السرّي عن الترحال. ليصبح دونما حاجة إلى جواز سفر أو تأشيرات مرور جوّابًا للمسارح واللغات.
ففي 2012، تمّت قراءة فصول مُمَسرحة من النّص باليونانية في أثينا، حيث تمّ اختياره في فوروم النّص المسرحي المعاصر للمركز الهليني للمعهد الدولي للمسرح. قراءة ممسرحة أنجزها كريسيا سبيليوتي. كريسيا الذي كان مهتمّا بأمر ترجمة النّص كاملا إلى لغة هوميروس وإنتاجه للمسرح. وقد أعطيتُه موافقتي المبدئية قبل أن يحرم شحُّ موارد الدّعم كريسيا اليوناني من لعب دور جيلو المغربي.
هكذا تأجّل صعود جيلو إلى الخشبة إلى حين ظهوره متعدّدا عبر أداء جميل للثلاثي نقولا زرينة وعطا ناصر وعيد عزيز، في مسرحية من إخراج بشار مرقص، في إنتاجٍ لمسرح الحارة الفلسطيني بدعم من مؤسسة (لافريش بل دو مي) الفرنسية في إطار مارسيليا عاصمة للثقافة الأوروبية عام 2013. لم أكن مقتنعا تماما بفكرة جيلو المتعدّد وأنا أحضر التداريب الأولى للمسرحية بفلسطين. لكنّني فوجئت بالنتيجة اللافتة وأنا أتابع العروض في تونس ومارسيليا وبروكسل.
لكنّ جيلو سرعان ما عاد إلى فرديته من خلال عرضين الأول في مراكش، من إخراج الدكتور إبراهيم الهنائي وتشخيص الفنان جمال كنو، العرض الذي لم تتح لي فرصة مشاهدته بعد، والثاني في باريس لمراكشي آخر هو المبدع عبد الجبار خمران الذي أخرجه رفقة صديقه زكريا حدوشي. في باريس شاهدت العرض التجريبي الأول من العمل الذي أنتجته فرقة بذور الشمس، وأدّاه عبد الجبار خمران.
بعدها جاءت تجربة مسرح مالين/ميخلن الفلمندية. وقد أصرّ ميخائيل دوكوك المخرج البلجيكي للعمل على أن يكون جيلو فلمنديا بلجيكيا بعينين زرقاوين وشعر أشقر. شاهدت العرض في أنفيرس/أنتويربن رغم أنّني لا أفهم اللغة الهولندية، وقد راق لي تجاوب الجمهور مع جيلو يشبهه.
والآن، أنا سعيد لتوصّلي بدعوة لحضور نسخة جديدة من جيلو في 15 نوفمبر القادم بمسرح “ستابلي دي جينوفا Stabile di Genova” بمدينة جنوة. نسخة إيطالية من إنتاج “لاكومبانيا إيطاليانا دي بروزا La Compagnia Italiana di Prosa” التي يديرها الفنان الإيطالي سافيريو سولداني Saverio Soldani. المسرحية من إخراج إيلينا سيري Elena Siri وتشخيص سيموني جيسينتي Simone Giacinti.
طه عدنان
عن المسرحية
“باي باي جيلو” مسرحية مونودرامية من تسع لوحات تروي حكاية الجيلالي، الملقّب بجيلو. وهو شاب مغربي قدم إلى بلجيكا وأقام فيها بطريقة غير شرعية قبل أن يجد نفسه مرميا في طائرة، تحت حراسة شرطيين، قصد ترحيله.
تبدأ المسرحية بمشهد ترحيل جيلو، هو الذي تُرعبه الطائرة رغم حلمه الطفولي بأن يصير طيّارًا، وهو المشهد الذي تنتهي به المسرحية أيضًا. وما بين المشهدين، الأول والأخير، تتوالى لوحات المسرحية وتتنامى أحداثها الدرامية بكثير من التشويق كاشفة عن العديد من مستويات الصراع التي يعيشها جيلو:
صراع داخلي مع ذاته، بدْءًا باسمه العتيق “الجيلالي” الذي اضطرّ إلى استبداله باسم جيلو وانتهاءً بسحنته التي تفضح أصوله العربية وتصيّره كائنًا غير مرغوب فيه.
صراع خارجي بدأ مع والده ذي الصفعات السديدة، ثم مع والدته التي تخفّفت منه بعد وفاة أبيه لتعهد به إلى عمه المهاجر ببروكسل لكي يسفّره معه بطريقة لا شرعية. صراع آخر سيتأجّج ببروكسل مع عمه وزوجة وابني عمه قبل أن يهرب منهم ليعيش حياة التسكع والشقاوة (حياة لم تثنه عن خوض قصة غرام مع معشوقته الفلمندية ليزبيت التي تنكّرت بدورها لحبه) والمشاكل مع الشرطة التي كانت تتعقّب سرقاته الصغيرة وأيضًا وجوده الزائد.
النص عبارة عن تدوين للراهن واليومي، مقاربة فنية لقضية الهجرة السرية من خلال إحدى محطّاتها الأكثر مأساوية: الترحيل. يتمّ ذك داخل النص بعمق وجدّية، لكن بخفة ورشاقة وبغير قليل من السخرية.
“باي باي جيلو” صرخة ضدّ الإقصاء. بوحٌ من أجل إثبات ذاتٍ مهمشةٍ ووجودٍ ناقص. كل ذلك في إطار حبكة درامية مشوّقة تتيح السفر السلس بين موضوعات النص الراهنة وفعلٍ دراميٍّ تتناسل منه أحداث وذكريات وقصص ومغامرات مليئة بالمفاجآت في مونولوج طريف ومؤثر.