لم يكن وزير الداخلية محمد حصاد في حاجة إلى عنفوان رئيسه في الحكومة وصخبه لكي يوجه له رد فعل قوي ، بالكشف عن علمه ومسايرته للمنع الذي طال مسيرة الأساتذة المتدربين، وما ترتب عنه من عنف هزَّ المجتمع برمّته.
الوزير، الذي لا يحتاج لمن يُؤَول أفعاله من عموم المواطنين، يبدو أنه قرر أن يقطع حبل الغموض الطويل، ويعيد الأمور إلى سياقها المؤسساتي، بعيدا عن نظرية المؤامرة الملتبسة، التي غذت بها نخبة رئيس الحكومة الحديثَ عن العنف والمسؤولين عنه.
لكن يبدو أيضا أننا خرجنا من اللبس.. إلى المعضلة.
فلن يكون من اللائق برئيس حكومة يقول إنه يتمتع بسند شعبي، أن يسكت عن النازلة، بل هو اتهام لا غبار عليه له بعلمه بقرار قالت أصواته المتعددة بأنه كان مؤامرة ضده!
قال رئيس الحكومة، في معرض عرضه أمام غرفة المستشارين إن هذه الحكومة يساندها الشعب، وهي لا تخاف التحكم.
طيب ليكن، ماذا سيقول الآن ونحن نتابع نهاية أسطورة التحكم، في قرار كان يعلم به، كما جسدته وزارة الداخلية وإفراغها من مضمونها البلاغي والسياسي الملتبس.. في الهنا والآن!
لقد كانت العلاقة بين الداخلية وبين رئاسة الحكومة، وقبلها الوزارة الأولى في قلب المعادلة السياسية، وعلى ضوئها كنا نقيس درجة التقدم في مغرب المؤسسات.
وبالرغم من الفارق بين الشخصيتين، فإن العلاقة بين رئيس الحكومة الأستاذ عبد الاله بنكيران وبين وزير الداخلية محمد حصاد، تحيلنا على العلاقة بين المجاهد عبد الرحمان اليوسفي وبين المرحوم إدريس البصري.. والقفز على كل من مرحلة عباس الفاسي وقبلها مرحلة إدريس جطو، هو قفز له معناه السياسي وليس قفزا إجرائيا.. فقط!
فهذه الإحالة هي أيضا استحضار لتجربتين في التناوب المغربي، ثم استحضار أيضا للمشروعين السياسيين المسنودين بأطروحة فكرية أو عقدية أو ايديولوجيا ولتاريخ معروف المعالم.
العلاقة يحددها، في هذا المضمار، وجود مشروع سياسي في ضبط الحياة المؤسساتية، لدى الاتحاد سابقا، ولدى العدالة والتنمية الآن، مع فارق جوهري يتمثل في التاريخ النضالي الواسع ضد إدارة الداخلية للشأن العام وارتباطه بتدبير الحياة السياسية والتدخل فيها عبر توسيع الترابط الإداري – السياسي من بوابة الانتخابات..
وقد كان مغرب التحكم الفعلي يُخضع الحياة كلها لأمّ الوزارات، بل إن من عوائق خمسين سنة في تاريخ المغرب، تغريبُ مفهوم الإصلاح عبر تعويضه بالحزب السري كما تولته الداخلية.
لقد عاش الرئيس الأستاذ عبد الإله بنكيران علاقة خاصة مع الوزارة إياها، تختلف من حيث السياق ومن حيث الوظيفة عن سابقه.
فاليوسفي، كما تابعنا، وجد صعوبة جمّة، في أن يلتقي العامل والولاة، الذين حضروا، أخيرا لاجتماعه وفي فمهم مياه كثيرة وضعها الوزير القوي..
وعبد الإله بنكيران… يعيِّنهم، وقد تابعنا دفاعه عن لائحة الولاة والعمال أمام البرلمان، عندما قال إنه صادق على التعيينات..
والأستاذ بنكيران ليس أمامه وزير بقوة إدريس البصري، مسنودا بالسلطان، كما في العهد السابق.
ولنا أن نسأل: لماذا قال بنكيران وقال بعض وزرائه إنه لا علم لهم؟
كان من الممكن أن يشككوا في قول حصاد، ويقولون “كنا مع قرار منع مسيرة غير مصرَّح بها، ولم نكن مع قرار استعمال القوة”.. مثلا، أما الإصرار على الجهل بالشيء بأكمله، فهو -بعيد كل البعد- عن “الكذب الأبيض”، ويعني أن الأمر تم تقديمه بغير ما قيل لنا علانية، وأن العلاقة مع “العدل والإحسان” هي صلبُ التكتّم هنا..
ومع ذلك، يبقى من باب «الخِزْي السقراطي» كما يقول الفلاسفة، أن يتناقض رئيس الحكومة مع واقع سياسي عرّاه وزير الداخلية…
الآن: ماذا سيفعل الأستاذ عبد الإله بنكيران مع وزير في حكومته كذَّبَه علانية، وأخبرنا بأنه ما “سانديك” في عمارة بِملْكية مشتركة اسمها الحق في استعمال العنف؟
لا يمكن أن يداري الحادثة بالصمت. إذا كانت مسؤوليته، فهل سيتقدم بنفس القوة التي خاطب بها المناضلة العريقة ثريا لحرش في الغرفة الثانية، ويقول لوزيره: هادي حكومة شعبية، حكومة دارها الشعب. انتهى زمن الحكومات الخائفة!
هو سؤال آني ..
ولنحرك الوقت، ونصل إلى نهاية السنة: كيف سيعدان الانتخابات وهم في علاقة شك والتباس؟
هل سيطلب الأستاذ بنكيران إعفاء وزيره في الداخلية.. مثلا مثلا؟ فالدستور يعطيه هذه الصلاحية، حيث ورد في النص الاسمى: “يمكن لرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة”.
ولعل دسترة النقاش حول من اتخذ القرار الزمني إياه، هو أفضل طريقة للتربية السياسية والخروج من نفق الممارسات الدعائية.. لهذا الطرف أو ذاك.
هو ذا الطريق العقلاني والملموس للقطع مع التحكم فعلا، حتى لا يبقى شعارا عالقا بالمزاج. وحسب المزاج!
طبعا، هذا إذا كان هناك منطق للسياسة في بلادنا، وفي حالة العكس، ها حْنا مْقصْرين!